كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 4)

للاهتداء والطاعة فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يهمك، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً. فإن قيل: إنّ مع للصحبة فما معنى اصطحاب العسر واليسر؟ أجيب: بأن الله تعالى أراد أن يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية وتقوية القلوب.

وقوله تعالى: {إنّ مع العسر ويسراً} استئناف وعد الله تعالى بأن العسر متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة، كقولك: للصائم فرحة، ثم فرحة، أي: فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء الرب، ويجوز أن يراد باليسرين ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم أيام الخلفاء وقيل: تكرير.
فإن قيل: ما معنى قول ابن عباس رضي الله عنه وابن مسعود رضي الله عنهما: لن يغلب عسر يسرين، وقد روي مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم «خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين» أجيب: بأن هذا حمل على الظاهر وبناء على قوّة الرجاء، وأنّ موعد الله لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ وأبلغه، والقول عنه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر في قوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات: 15)
لتقرير معناها في النفوس، وتمكينها في القلوب، وكما تكرر المفرد في قولك: زيد زيد. وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردف بيسر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر فهما يسران على تقدير الاستئناف.
وإنما كان العسر واحد لأنه لا يخلو إما أن يكون تعريفه للعهد، وهو العسر الذي كانوا فيه فهو هو، لأنّ حكمه حكم زيد في قولك: إنّ مع زيد مالاً إنّ مع زيد مالاً، وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضاً.
وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً غير مكرر فقد تناول بعضاً غير البعض الأوّل بغير إشكال، أو بأن لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين فيها واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة فدائم غير زائل، أي: لا يجتمعان في الغلبة كقوله صلى الله عليه وسلم «شهرا عيد لا ينقصان» ، أي: لا يجتمعان في النقصان. فإن قيل: فما معنى التنكير؟ أجيب: بأنه للتفخيم، كأنه قيل: إنّ مع العسر يسراً عظيماً وأي يسر.

روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه» . وللطبراني عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان العسر في جحر لدخل اليسر حتى يخرجه» . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية» .
ولما عدد تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه السابقة ووعده الآنفة حثه على الشكر والاجتهاد في العبادة بقوله تعالى:
{فإذا فرغت} قال ابن عباس رضي الله عنهما: فرغت من صلاتك المكتوبة {فانصب} ، أي: انصب في الدعاء. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وقال الشعبيّ: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك. وقال الحسن وزيد بن أسلم: إذا فرغت من جهاد عدوّك فانصب في عبادة ربك وصل. وقال ابن حيان عن الكلبيّ: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب {استغفر لذنبك وللمؤمنين} (محمد: 19)

. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أكره أن أرى أحدكم فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة.
{وإلى ربك} ، أي: المحسن إليك بفضائل النعم

الصفحة 556