كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

أجدادنا قبل مئة سنة.
فما دمنا لا نستطيع وقف هذا السيل فلنحفر له مجرى يسيل فيه، لئلاّ يسيح في الأرض فيُغرق البلاد ويُهلك العباد. إذا كنّا لا نقدر أن نعتصم من هذا الوباء في أقفاص زجاجية خالية من جراثيم المرض، فلنأخذ اللقاح الواقي منه ثم لنقتحم عليه الحياة ولنسلك مسالكها. إن لم يكن بد من الدراسة في أوربّا فأَولى أن يذهب إليها شباب مسلمون ناشئون في طاعة الله متزوّدون من التقوى بزاد، من أن يذهب شُبّان لا يبالون بحلال أو حرام ولا يذكرون الله إلاّ قليلاً.
ولكن الذهاب لا يخلو من خطر، فلماذا أعرّض أخي لهذا الخطر؟ ولماذا أجعله هو محلّ هذه التجرِبة وهي تجرِبة موت أو حياة، إن لم يكن فيها الموت الذي تخرج فيه الروح ففيها موت شرّ منه، هو موت الإيمان والخلق والعفاف!
وكنت حديث عهد بدراسة الأدب الفرنسي، وكنت أحفظ المقطع الرائع في رواية «السيد» لكورناي حين تردّد بين واجبه في الانتقام لشرف أبيه ولو ضاعت منه حبيبته (شيمين) وبين الإبقاء على شيمين ولو هدر شرف أبيه! وما أصعب أن يتردد الإنسان بين أمرين لا يرجح أحدهما إلاّ ريثما يعود مرجوحاً. إنه كالذي كانوا قديماً يربطونه بين فرسَين قويَين يذهب هذا يميناً وهذا شمالاً فيتمزّق جسمه مزقاً.
في ذهاب أخي ضمان مستقبله وكفالة عمله، ولكنه شابّ غرير ما عرف من شرور الحياة ومكايدها شيئاً؛ كانت دنياه

الصفحة 103