كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

بيته ومدرسته والطريق بينهما، وكان في نحو التاسعة عشرة من عمره. فكيف أبعث به إلى بلد لا نزال نسمع عنه من أخبار الفساد والإباحية وسهولة الوصول إلى الفاحشة ما يُشيب رأس طفل رضيع؟
وأنا لم أكن ممّن يرتاد القهوات، ولكنها فُتحت في تلك الأيام قهوة في طرف غوطة دمشق عند بوابة الصالحية كانت تُدعى قهوة فاروق، وهي أشبه بمتنزه، خالية من كل محرم، تقام فيها صلوات الجماعة إذا دخل وقتها، يقعد فيها من أساتذتنا: سليم الجندي وجودة الهاشمي ومحمد البزم، ومن إخواننا: سعيد الأفغاني وأنور العطار وحلمي اللحام ومحمد الجيرودي. وجاؤوا يهنئونني بنجاح أخي في المسابقة فقلت: ولكني لا أستطيع أن أحمل تبعة إرساله، أخاف أن يلومني هو يوماً أو أن يلومني الناس، وهذا كله أهون من أن يعاقبني الله في الآخرة إن أنا عرّضته لفتنة في دينه أو خلقه.
فأخذني جودة بك الهاشمي (وكانت له في نفوسنا ونفوس من كان قبلنا ومن جاء بعدنا من الطلاّب هيبة هي أقرب إلى الرهبة، لم نكن نجد مثلها لغيره، ولبث حيناً من الدهر مديراً لمدرستنا، مكتب عنبر) أخذني إلى منضدة قريبة خالية، وألقى بثقله كله عليّ ليقنعني بالموافقة ويخوّفني الندم إن أنا أضعت على أخي هذه الفرصة التي لا يتهيّأ مثلها كل يوم، وقال: اسأله هو.
وكنت قد سألته فترك الأمر إليّ، فزادني حملاً إلى حملي. فقلت للأستاذ: أستخير الله وأعود من الغد. وأمضينا ليلة نفكّر، أنا وهو وأخي ناجي ومن كان معنا من أصحابنا، فاجتمعوا على

الصفحة 104