كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

أن الخير في سفره، فوافقت وأنا خائف.
ولست أنسى ليلة السفر. وقد أرادوا أن يخفّفوا عنه ويسلّوه، وكانت لمحمد عبد الوهاب أغنية جديدة هي «ليلة الوداع طال السهر، وقال لي قلبي: إيه الخبر؟ قلت: الحبايب هجروني». وطفقوا يغنّونها، وقعدت أنا أتصور الوداع فتقطّع قلبي سلَفاً، لا لرهبة ساعة الوداع وحدها بل لما كنت أتوقعه بعد هذا الوداع.
وحان موعد عودتي إلى بيروت، وكنت -كما قلت لكم- أسافر إلى دمشق عشيّة الثلاثاء من كل أسبوع وأعود صباح السبت، فسافر أخواي ناجي وعبد الغني معي. وقطعنا له تذكرة على الباخرة «مارييت باشا»، وكانت يومئذ من البواخر الكبيرة التي تسافر من بيروت إلى مرسيليا مجتازة الإسكندرية، تقطع في هذه السفرة ستّ ليال. خبّرني بعدها أنه لم ينم فيها ساعتين متصلتين، إذ كان البحر هائجاً، وكانت الباخرة تعلو حتّى تكون كأنها على رأس جبل صغير ثم تهبط فجأة، فيحس ركابها بقلوبهم لدى حناجرهم وبأن مِعَدهم قد قفزت إلى بلاعيمهم، فتنقلب فيندفع ما فيها.
ستّ ليال بلا نوم هنيء ولا طعام مريء ولا راحة ولا استقرار. فليذكر هذا الذين يقطعون هذه المسافة اليوم في ساعتين وهم مضطجعون على كراسيهم في طياراتهم، يضعون فنجان الشاي فلا يهتزّ ولا تنقط منه نقطة، يأكلون ويشربون وينامون وهم مستريحون.
* * *

الصفحة 105