كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

لم أذهب معه إلى المرفأ، لأني لا أطيق مواقف الوداع وأهرب منها ما استطعت. وبقيت في الكلّية أنتظر على مثل جمر الغضى ... وجمره (وقد عرفته) مثل الفحم الحجري. حتى رجع أخي ناجي فخبّرني أن السفينة قد مضت به. لم أنَمْ تلك الليلة، كنت أحاول أن أتخيل ما يصنع: كيف نزل إلى السفينة؟ وأين مكانه فيها؟ وماذا كان يشعر به؟ ولم أكن ركبت البحر لأسترجع ذكريات عرفتها، فكنت أستضيء بضوء الخيال وأمشي في طرق مظلمة وفي ليلة ما فيها قمر. وأمضيت ليالي كانت أشدّ عليّ وأنا على الأرض الثابتة في البلد الآمن من لياليه في الباخرة التي كانت ترقّصها الأمواج ويلعب بها البحر.
وكان قد سبقه إليها أخونا وابن أستاذنا محمد المبارك رحمة الله عليه، وهو أكبر منه، بيني وبين أخي ناجي، فكتب إليّ رحمه الله يطمئنني عليه ويصف لي حاله (وبقيَت رسالته عندي أمداً طويلاً ثم فقدتها) يخبرني أن أخي قدم إلى باريس وهو ما يزال في دمشق، ما عرف من باريس إلا الجامعة والمدينة الجامعية، حتى المسجد ما عرف طريق الوصول إليه حتّى دلّه المبارك عليه. وقال لي على عادته في مزاحه: لقد حاولت إغواءه وأخذه إلى حيث يذهب الشباب فأبى واشتدّ في الإباء! ولم يكن المبارك يغوي أو يؤم دور الغواية، ولكنها مزحة من مزحاته.
لقد نفعَت أخي عزلتُه وأفاده بُعدُه عن ملاهي باريس، التي تجذب الطلاّبَ بمصابيحها الساطعة على أبوابها كما تجذب النارُ الفراشَ فيتهاوى فيها. ولَمصيرُ الطلاّب في أضواء الملاهي أسوأ

الصفحة 106