كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

لقد اعتكف أخي في غرفته في المدينة الجامعية، يغدو إلى السوربون يسمع الدرس ثم يعود إلى غرفته، يفكّر وحيداً ما معه إلاّ الله، ولقد تفجّرت في نفسه ينابيع إمدادات إلهية أودع جانباً منها رسائله إليّ، رسائل احتفظت بها وجمعتها ثم أعدتها إليه، فأضاعها أو أخفاها. فما أسفت على ضياع شيء ما أسفت على ضياعها، ولو وجدتها ونشرتها كما هي لكان منها كتاب يترك في نفس قارئه مثلما تترك قراءة الصفحات البارعات من كتاب الغزالي. فيها من الصفاء الروحي، من التأمّل، من الإيمان، من رؤية الحياة على حقيقتها ... ماذا أقول؟ تصوّروا شاباً لم يصل إلى العشرين يعيش في باريس بلد المُغريات والمُغويات، وفي نفسه ما في نفس كل شابّ من الغريزة والميل إلى اللذّات، واللذّاتُ حوله متاحة مباحة وهو يمسك نفسه عنها، يمنعه دينه عنها، فهو يعتصم به كما يعتصم الموشك على الغرق بالخشبة الباقية من السفينة الغارقة، كيف يشدّ يده عليها يخاف أن يغفل عنها، أو أن تفلت منه فيخسرها فيخسر حياته معها.
لقد كتب أستاذنا الرافعي رحمة الله عليه قصّة عنوانها «في اللهب ولا تحترق»، وقد بيّن أخونا الأستاذ العريان (رحمه الله أيضاً) أنهم خدعوه، فلا يمكن أن يكون إنسانٌ في اللهب ولا يحترق. فلا تصدّقْ ذلك فتاةٌ فتدخل مداخل الفتنة وترجو أن تنجو. وللجاحظ كلمة عن القَيْنات (أي المغنّيات) في زمانه يشرح فيها أن نجاة القَينة من السقوط في الموبقات تكاد تُعَدّ من المستحيلات.
وأرسلت إليه رسالة، ما بعثت بها إليه في البريد ولكن

الصفحة 108