كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

لا، ليسوا سواء؛ منهم جماعة كانت ضمائرهم أغلى من أن ترخصها الأقذاء تعلق بها، ونفوسهم أعلى من أن تصل إليها المطامع تهبط بها. جميل مردم بك لمّا صار وزير المالية، فجئته ليُمضي لي على السند الذي أقبض به أول راتب في الوظيفة، نسي أني كنت أعمل معه وأني كنت أكلّمه كما أكلّم إخوانه الذين كانوا مثله، بل كانوا خيراً منه، بلا حاجب ولا بوّاب، فاحتجب دوني وأبقاني واقفاً على بابه. لا على باب داره، فالمرء حُرٌّ في داره يردّ عنها من يريد ويستقبل فيها من يريد، بل على باب غرفته في قصر الحكومة، التي أملك منها مثل الذي يملك ودفعت من ثمنها مثل الذي دفع، لأنها ملك للشعب كله لا لآله وذويه. حتّى فار الدم في عروقي (وما أسرع وأشدّ ما كان يفور) فرميته بمقالة قام منها ولم يستطع أن يقعد هادئاً إلاّ بعد حين.
مع أنني كنت أدخل على شكري بك القوّتلي متى شئت، أفتح الباب وألِج أو أقرعه وأنتظر هنيهة ثم أدخل. أمّا هاشم الأتاسي فقد كان خيراً منهم، بقي بابه مفتوحاً للجميع وبقي أباً للجميع، لم تختلف حياته وهو رئيس عمّا كانت عليه قبل أن يكون هو الرئيس. حتّى الشرطي الذي وقفوه على باب داره قال له يوماً (وأنا أسمع) عشيّة ليلة باردة: يا ابني رُح إلى أهلك وأولادك فاسهر معهم ونَم عندهم، فإنها ليلة باردة وأنا لا أحتاج إليك، فالحامي هو الله. فلما تردّد أكّد عليه الكلام وشدّد الأمر حتّى انصرف، فما كاد يبتعد حتّى ناداه ومشى إليه خطوات، فأعطاه بعض المال ليأخذ به شيئاً معه إلى عياله.
كان هاشم بك يجول كلّ عشيّة جولة في أطراف البلد

الصفحة 118