كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

بسيارته، ليس أمامه حرس ولا وراءه جند. وكان يصلّي في مسجد المُرابِط القريب من القصر الجمهوري بالمُهاجرين. والقصر كان في دار الوالي ناظم باشا الذي أنشأ حيّ المهاجرين. فكانوا يبعثون له من القصر قبل صلاة الجمعة من يمدّ له سجادة صغيرة يحفظ له مكانه في الصف الأول، فيجيء حسن آغا المهايني (الذي ترك حيّ الميدان وسكن في طرف المقهى في ساحة آخر الخطّ، أي آخر خطّ المهاجرين)، فيترك المسجد كلّه ليصلّي على هذه السجادة ولا يقوم عنها. فلما كثر ذلك منه جاءه الشرطي يسأله أن يقعد في مكان آخر، سأله بلطف ولين، فصرخ الآغا بأعلى صوته: يا ابني هذا بيت الله وكلّنا عباد الله، فليس لأحد من العبيد أن يفضّل نفسه على غيره في بيت سيده إلاّ بإذنه. إن المسجد يا ولدي لا يُحجَز فيه مكان لأحد، مَن سبق كان هو الأحقّ بالمكان.
* * *
وقد تركت بيروت (كما سيأتي الخبر) وعُدت إلى بغداد في آخر سنة 1938 وأوائل السنة التي بعدها، ولكني عدت بجسمي وفكري وحدهما، أما قلبي فبقي في الشام. لم أنسَ الشام يوماً، وهل ينسى أحدٌ بلدَه إلاّ إن نسي أمه وأباه ونسي ما مضى من أيام حياته؟
وكان الفرنسيون قد أخلّوا بشروط المعاهدة وعادوا إلى ما كانوا عليه من الاستبداد، وكانت تَرِدُ علينا الأخبار بأن الأذى قد زاد وأن الشكوى قد عمّت. والبعد يجسّم الأحداث وينفخ فيها، حتّى صرت (صدّقوني) لا أهنأ بطعام ولا أستريح إلى منام. أفكّر

الصفحة 119