كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

عطّلنا الدراسة يومين، نأتي في الصباح من قبل موعد الدوام ونبقى إلى الليل نُعِدّ لهذه المظاهرة، تتسابق المدارس وتتنافس على نيل قصب السبق فيها. وراجت سوق مدرّسي العربية، يُعِدّون الخُطَب ويَنْظمون الأناشيد، حتّى إنني أنا الذي لم يكن يوماً شاعراً نظمت ثلاثة أناشيد حماسية، وأعجب من نظمي إياها أنني لحّنتها! أي أنني سرقت من مئات الألحان التي أحفظها (ولا أزال أحفظها)، مئات حقاً من التواشيح والأغاني والأدوار والقدور والأناشيد، سرقت من ألحانها أجزاء ألّفت منها لحناً جديداً.
خبّروني، أليس هذا هو التلحين عند أكثر ملحّني هذه الأيام؟ وحفّظت الطلاّبَ قصائد حماسية ليلقوها على الناس، وتسابقنا إلى اختراع الهتافات وتردادها. وأنا أعرف فنّ «العرَاضات» في الشام، إذ يحملون رجلاً على الأعناق يهتف لهم فيرددون ويرتجل من المقال ما يوافق الحال.
وجئنا من المدرسة الغربية حيث التقينا بجماعة المركزية عند ميدان باب المعظم، ثم مشينا باتجاه الباب الشرقي، فلما وصلنا إلى الجسر العتيق جاء طلاّب مدرسة الكرخ فانضمّوا إلينا، وكان الطريق مزدحماً بالناس حتّى ما يُدرى مَن الواقف ومَن الماشي، بحر يموج موَجاناً.
لم يبقَ مدرّس لم يخطب، حتّى أنور العطار الشاعر الذي لم يكن من فرسان المنابر خطب مراراً. أما أنا فكلّما تقدّم الموكب مئة متر دُعيت لإلقاء خطبة، فلم نصل إلى جسر مود حتّى بُحّ صوتي وانقطع. ولم يحدث لي ذلك وأنا أخطب من أكثر من ستّين سنة إلاّ هذه المرّة، ما عرفته قبلها ولا عرفته بحمد الله بعدها.

الصفحة 125