كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

كانوا يعيشون حين أرى ما خلّفوا وراءهم من الآثار، أعيش تاريخهم كأنني عُدت إليه، فإن التاريخ زمان ومكان وناس، أمّا الزمان الذي مضى فلا يعود، وأما الناس الذين ماتوا فلا يرجعون، ولم يبقَ إلاّ المكان؛ فأمكنة الآثار هي أوعية التاريخ.
لقد رأيت الأهرام وأعمدة بَعْلَبَكّ وتَدْمُر وبابل، وأكثر الآثار الإسلامية. ورأيت مسجد قوّة الإسلام ومنارة قطب الدين في دهلي، وزرت قصر شارلمان في آخن (أكس لا شابيل)، وعرفت الآثار العمرانية الباقية في مصر والشام وغيرهما، في الأموي وقبّة الصخرة ومسجد عمرو، وفي المدارس والقلاع والأسوار في كثير من البلدان. لكن ما رأيت مثل «سُرّ مَن رأى».
إن المدن تخرب بالحروب وبالزلازل وبالأحداث الطبيعية والبشرية، تخرب شيئاً بعد شيء بعد أن تكون قد عاشت حتّى أدركَتها الشيخوخة ونال منها البِلى. ولكن سُرّ مَن رأى ماتت فجأة؛ ماتت وهي شابّة لمّا تكمل الخمسين، وخمسون سنة في عمر المدن خمس ساعات من عمر الإنسان. ما أعرف مدينة ماتت مثلها فجأة إلاّ بومبي (في إيطاليا) لمّا ثار بها بركان فيزوف، فغطّاها بلحاف من الحمم برد فتجمّد فدُفنَت فيه حيّة، فصار قبراً لها. لقد لبثَت تحته حتّى كُشف عنها الغطاء بعد قرون وقرون، فعادت كما كانت ولكن بلا روح: الذي كان قاعداً في داره مع امرأته ظهر كما كان حين نزلَت عليه حمم البركان، والذي كان يشتغل في دكّانه، والماشي في طريقه، والعاري يغتسل في حَمّامه! وكذلك يُبعَث الناس يوم القيامة على ما ماتوا عليه.

الصفحة 21