كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

ليسقي مدينة حَربي. فتلفّتنا حولنا فإذا النهر قد جفّ، والمدينة قد مُحيت، والعهد العباسي قد انقضى. وإذا بلاد الله تتقدّم ونحن أحياناً نتأخر ونرجع إلى الوراء.
سرنا بعدها قليلاً فطلعت علينا «المَلْويّة» على حاشية الأفق، وهي منارة جامع المتوكّل، عالية تبدو من بعيد كالصرح الهائل. وهي علَم البلد، كما أن قبّة الصخرة علَم القدس وبرج إيفل علامة باريس وتمثال الحرية علامة أمريكا.
ثم بلغنا النهر فعبرناه ودخلنا قرية كبيرة هي سامرّاء، نستريح في مدرستها ساعة بعد مسيرة ثلاث ساعات في السيارة. ثم ولجنا حرم التاريخ، يصحبنا معلّمو المدرسة الذين أولونا من أياديهم وأرونا من كرمهم وحسن أخلاقهم ما أذكره لهم بالشكر بعد هذا الزمن المديد، فلولاهم ما رأينا شيئاً ولا عرفنا من أين ندخل أو نخرج في هذا العالم الواسع. هذا ما كان في تلك الأيام، ولعلهم وضعوا الآن عند الآثار أدلاّء وطبعوا مطبوعات تُرشِد السائحين، لأنه عالَم، لأنه شيء عظيم.
سرنا أكثر من خمسة وعشرين كيلاً بمقياس السيارات (بالكيلومتراج) وما قطعنا إلاّ نصف البلد من المسجد الجامع إلى الدور العليا؛ هذا كله نصف البلد وعلى الضفّة الأخرى مثله! وأنا لم أستطع أن أتصوّر كيف كانت هذه البرّية الواسعة التي يضلّ فيها البصر مدينة عامرة، وكيف كان الناس يقطعونها، وأن بين أولها وآخرها كما بين أول بغداد اليوم وآخرها، بل كالمسافة بين طرفَي القاهرة أو أمثالها من المدن الكبرى.

الصفحة 23