كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

كان أول ما رأينا المسجد الجامع. وهو كبير جداً، لو وُضعت قرية سامراء الحاضرة (كما رأيناها يومئذ) فيه لوسعها وفضل عنها. لم يبقَ منه إلاّ السور، وهو مبنيّ من اللبِن تدعمه من ظاهره أبراج مستديرة، ووراء السور المنارة، وهي تُعرف عند الناس بالملويّة، أي المدوَّرة (من لوى يلوي). سلّمها من ظاهرها ليس فيه درجات، ولكنه طريق حلزوني ملتو، عريض في أوله ثم يضيق في أعلاه، مؤلف من سبع طبقات. صعدت أنا أربعاً منها ثم دار رأسي فلم أعُد أستطيع الصعود، وبلغ إخواننا ومعهم الدكتور عياد ذروتها، وأخذوا صورة لهم من الأرض وهم واقفون في أعلاها.
وتحتها قاعدة مربعة أقيمت حديثاً لتقويتها، طول كل ضلع من أضلاعها أربعون متراً. وارتفاع المنارة قريب من خمسة وثمانين متراً، أي أنها تكاد بعلوّها تحاذي منارات المسجد الحرام! وقد بُنيت على غرارها منارة جامع ابن طولون في القاهرة، لا أنها ملويّة مثلها بل أن دَرَجها من ظاهرها. وبينهما نحو خمس وأربعين سنة فقط. ثم تُركت هذه الصفة في المآذن واتُّخذ لها سلّم من جوفها، ثم تفنّنوا فيه، ففي مسجد تنكز في دمشق منارة لها سلّمان لا يلتقيان، يصعد الصاعد من أحدهما فلا يرى النازل من الآخر.
تركنا المسجد وسرنا في جهة واحدة لئلاّ نضل وسط هذه الأطلال، وكان حولنا تلال من التراب، كانت قبل 1150 سنة دوراً عامرة وقصوراً فخمة، فجزنا بها حتّى بلغنا أنقاضاً حول

الصفحة 24