كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

سور كبير أخبرَنا معلّم المدرسة أنها أنقاض قصر أم عيسى بنت الواثق (والواثق هو الخليفة العباسي الذي جاء بعد المتوكّل).
وعلا بنا على تلّ عال وقال: انظروا. فنظرت فلم أرَ إلاّ برية واسعة لا شيء فيها، فقال: أمعن النظر ودقّق في الأرض. ففعلت فرأيت تلالاً صغيرة منتظمة على شكل دوائر متقاطعة على نمط هندسي بديع، يمتدّ إلى ما لا يُدرِك بصري آخره. فقلت وأنا مشدوه: ما هذا؟ قال: ميدان تجري فيه الخيل أكثر من خمسة آلاف متر، فلا تغيب عن عينَي الخليفة وهو يرقبها من هنا، من مرقبه العالي.
ومضينا نمرّ على الأطلال حتّى بلغنا آثار سور كأنه -من سعته وامتداده- سور مدينة. قال دليلنا: هذا قصر الخليفة. ولم يكن قصراً واحداً ولكنها قصور عددت منها أكثر من عشرة. فسرنا خلالها في طريق مبلَّط، لا تزال آثار بلاطه ظاهرة وقد مرّ عليها نحو اثني عشر قرناً، فجعلت أتخيل كم مشى على هذا الطريق من خلفاء وأمراء وكم شهد من جلال وجمال، حتّى بلغنا القصر الصيفي للمتوكّل.
أيّ نظام للتهوية في عصر ما كان فيه كهرباء ولا مراوح ولا مكيفات؟ كنّا فوق الأرض نكاد نهلك من حرارة الشمس، فلما نزلنا رُدّت الروح إلينا، فوجدنا برد الظل وسريان النسيم، بل لقد أحسسنا بالبرد. وفيه البِرْكة، بِركة المتوكل التي كنت أدرّس الطلاب قصيدة البحتري فيها فآخذ ما قال على أنه من مبالغات الشعراء وإلاّ فما عسى أن تبلغ هذه البركة حتّى تظلّ دجلة

الصفحة 25