كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

فيه من تاريخ السؤدد والنصر. إنا نتخيل هذا القصر كيف كان يعجّ بالحياة ويفيض بالحبّ، حتّى إننا كنّا نسمع الأصوات ونُبصِر الألوان ونشمّ عبق العطر! ونحسّ كأننا نرى الخليفة ونشهد مجالس الأدب والغناء. كم عاش في هذا المكان من عواطف! كم خفقَت فيه من قلوب! كم امتلأ بالحياة!
إن في هذا القصر من الذكريات التي تحتويها هذه الجدران الخرساء وهذا اللبِن البارد ما لو حدّثَت به لجاءت بالعجب العُجاب. إن سؤال الديار وأخبار الأطلال أقدمُ فنون الشعر العربي، وهو أصدق هذه الفنون.
* * *
وخرجنا من القصر ونحن نحسّ كأننا قد خرجنا من أنفسنا، وانتقلنا من العالَم الشعري الساحر إلى عالم الحقيقة الوعر البارد. ومررنا على جُبّ واسع للماء خبّرنا مَن معنا أن بعض الجاهلين من الأدلاّء والتراجمة يدّعون بأنه سجن ويختلقون عنه الأكاذيب. وهؤلاء الأدلّة والتراجمة بلاء أزرق، يُفسِدون تاريخنا ويشوّهون ماضينا؛ في جامع بني أميّة منارة يسمّيها الناس مئذنة عيسى، سمعت مرّة أحد هؤلاء التراجمة يقول بالفرنسية لبعض السياح: "هذه المنارة هي التي بناها الوليد بن هارون الرشيد ليسوع، ولذلك سُمّيت منارة عيسى"، وهؤلاء السياح يكتبون في دفاترهم ما يقول فينشرونه على أنه كتاب علمي عن الشرق وأهله!
ولقد قرأت مرّة لكاتبة فرنسية زارت دمشق وكتبت كتاباً عنها قالت فيه: "ويخرج أهل دمشق كل مساء لزيارة قبر النبي في مكّة،

الصفحة 27