كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

حسبت هذا الشابّ أحد الذين يدخلون ليستمعوا، ولم يكن ذا سِنّ ولا هيبة ولا شيءَ فيه يدلّ عليه، فقعد في آخر الصف ومضيت في درسي، ورأيته قد أخرج دفتراً صغيراً فجعل يكتب فيه فقلت: حريص على الفوائد يدوّنها لئلاّ ينساها.
فلما انتهى الدرس وخرجنا لحقني الطلاّب على عادتهم يمشون معي، ومشى هو معهم. فلما انتهينا إلى غرفة الأساتذة رجعوا ودخلت فدخل هو معي، وافتتح القول بالثناء على درسي الذي سمعه وعلى مقالاتي التي قال إنه كان يقرؤها في «الرسالة». وأنا لا أجد في مثل هذه الحال ما أقوله، لأن من سألني عمّا أعرفه أجبتُه، ومَن حيّاني حيّيته، ومن شتمني شتمته، أما الذي لا ينطق إلاّ بمدحي فماذا أقول له؟ اللهمّ إلاّ كلمات الشكر أعيدها وأكرّرها، ولا أتمنّى إلاّ أن يخلّصني الله من هذا الموقف الذي أراه (إلى الآن) أشَقّ المواقف عليّ.
فلما ظنّ أنه خدّرني بمدحه وأنه تمكّن مني، وأنه عقل لساني بالحياء عن جوابه قال: أعرّفك بنفسي، أنا الدكتور فلان من مصر، المفتّش الاختصاصي للّغة العربية.
وأحسست أنه مدّ باللقب صوته ونصب عنده قامته، ودانى ما بين حاجبَيه ووقف وقفة القائد الذي يريد أن يُلقي أوامره فتُطاع. وأنا مهما حاولت أن أروّض نفسي على طاعة المفتّشين والرؤساء لا أستطيع، وأجدني مدفوعاً دفعاً لا يُقاوَم إلى المنازلة وإلى مجابهة مَن يأمرني وينهاني مستعلياً، بما يكره، إلاّ اثنين من المفتّشين والرؤساء؛ الأول: مَن كنت أرى له الفضل عليّ بعلم أو سنّ أو تجرِبة، كالمفتّش مصطفى تمر الذي كان أبا التعليم في

الصفحة 32