كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

كتابي عن عمر (المطبوع سنة 1352) (¬1) خبر إنشائها، إلى أنباء أدبائها وشعرائها وأمرائها، ومباريات مربدها الذي خَلَف سوق عكاظ. قرأت عنها الكثير، وكنت في شبابي أحفظ ما أقرأ. ولا يزال معي بحمد الله أكثر من نصف هذه النعمة، نعمة الحفظ التي أنعم الله بها عليّ، ولكنني صرت أذكر المعنى وأنسى اللفظ، وأحتفظ بالخبر وأنسى المُخبر أو المَرجع.
وإذا شكوت ضعف ذاكرتي الآن فإنما أشكو حين أذكر ما كانت عليه، وإلا فأنا أحمد الله، لا أنكر فضله ولا أجحد نعمته، فإنني بالنسبة لأمثالي أقوى ذاكرة ممّن أعرف منهم، وحسبي أن كلّ ما أكتبه هنا من ذكريات مضى عليه الآن نحو نصف قرن، أكتبه من ذهني لا أرجع فيه إلى مذكّرات مكتوبة وليس معي من رفاق تلك الأيام من يذكّرني بما نسيت منه. وإني كلّما رأيت فيما يكتبه إخواني وأصحابي إشارة إلى مذكّرات لهم يرجعون إليها وينقلون منها، غبطتُهم وتمنّيت أن لو كنت مثلهم، لا أحسدهم بل أُسَرّ لهم وآسى على نفسي أني لست مثلهم.
* * *
لمّا أزف الرحيل وتيقّنت أني مفارقٌ بغداد ذهبت أمشي وحدي، أطوف شوارعها، أقف على مواضع ذكرياتي فيها أودّعها، كما يصنع كلّ عاشق تحمله صروف الدهر على مفارقة ديار المعشوق. وكلّما وقفت على مربع عرضت في ذهني ما كان
¬__________
(¬1) راجع تعليقي في الحاشية في الحلقة الثانية والثمانين من هذه الذكريات (مجاهد).

الصفحة 38