كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

أكل عشر لقم تبدّلَت المناظر أمامه. وإن كان بين ركّاب الدرجة الأولى فدفع أجرة المنام فرشوا له المقعد كله فجعلوه سريراً على طوله ووضعوا الوسائد والأغطية البيضاء النظيفة، فنعم بأطيب نومة وأهنئها، بعد أن يكون قد ألف ضجّة القطار، بحيث إنه إذا وقف القطار أفاق. وكذلك الإنسان تملكه العادات وتسيّره، ومن أصدق ما قال قائلٌ شطرُ بيت المتنبّي: «لكلّ امرئٍ من دهرِهِ ما تعوّدا» (وإن كان شطره الثاني أسخف ما قال القائلون) (¬1).
ولقد سافرت بعد ذلك في القطار أسفاراً طوالاً كانت كلها متعة وأنساً، منها أنني سافرت من هانوفر إلى بروكسل إلى أمستردام، ومن جاكرتا إلى سورابايا من طرف جاوة إلى طرفها الثاني، وسافرت من قبل ذلك من حيفا إلى القاهرة في قطار دون قطارات العراق، وسافرت في أعجب قطار وأقدمه، القطار الذي صار المُفرَد العَلَم الذي لا نظير له في الدنيا، قطار «دمشق-بيروت» الذي كان يقطع المئة كيل (فقط) بينهما بإحدى عشرة ساعة!
* * *
¬__________
(¬1) الشطر هو: «وعادةُ سَيف الدّولة الطّعنُ في العِدا» (مجاهد).

الصفحة 42