كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

في الأيام التي أتكلّم عنها في هذه الحلقة.
وأنا لا أحبّ نزول الفنادق وأفضّل عليها غرفة واحدة يكون معي مفتاحها لا يدخلها غيري، على أن تكون مَرافقها معها (المطبخ والمرحاض والمغسلة). ولقد نزلت أفخم الفنادق في مصر (أعني القاهرة، لأني لم أزُر الإسكندرية ولم أزُر بلدنا طنطا، مع أني أقمت في مصر سنوات متفرّقات) وفي مدن أوربّا وفي بومباي وفي دهلي وسنغافورة وجاكرتا، وما اطمأننت ولا سكنت إلى واحد منها ولا ذهب من نفسي كرهها.
لذلك فتّشت من يوم وصلت البصرة عن دار أستأجرها. وكان أحد زملائنا في بغداد قد دلّني على قريب له يعمل فيها معلّماً في الابتدائية أعزب، وكتب إليه فاستقبلني في المحطّة، وكان دليلي ومساعدي (فأنا من صغري لا أحبّ دخول الأسواق ولا أكاد أشتري بنفسي شيئاً). فوجد لي داراً عربية، وأسكنتُه معي على أن يُعِدّ لي الطعام ويمشي معي إن احتجت، ولا أرزؤه شيئاً بل تكون النفقة كلّها عليّ.
ثم إن من أسوأ عاداتي (أو لعلّها من أحسنها، لا أعرف الحقيقة) أني أبقى أكثر ساعات الليل والنهار في بيتي، لا أحبّ أن أزور أحداً إلاّ إذا اضطُررت إلى زيارته أو كان ممّن أعرفه وآلفه، ولا أقعد في مقهى ولا أؤمّ نادياً ولا ملهى. أمّا الدعوة إلى الطعام فأنا أفرّ منها، لأني أعلم أنه يُقدَّم في الدعوات طعام هو أطيب في العادة من طعامي في بيتي ولكني أُسلَب في الدعوات حرّيتي في اختيار الطعام، وحرّيتي في اختيار وقت الأكل، وحرّيتي في اختيار الآكلين.

الصفحة 46