كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

وكان رفيقي الذي ساكنته يستأذنني ويذهب فيسهر وأبقى وحدي، كما كان يذهب إخواننا الذين كنت أسكن معهم في بغداد وأبقى وحدي. ولم يكن في الدار رادّ (راديو) أستمع إليه، ولم تكن هذه الروادّ الصغيرة التي تعمل بالمدّخرة (بالبطارية) بل كان الرادّ على الكهرباء، وكان كبير الحجم ضخماً غالي الثمن. وأنا لم أضع في الدار إلاّ سريراً من الحديد وكرسيَين من الخشب ومنضدة رخيصة أكتب عليها وآكل عليها. فأصابني أرق شديد، كنت أحاول أن أُكرِه نفسي على النوم فتأباه عليّ، أو تريد هي النوم فيأبى عليها، فأكبس رأسي على الوسادة، ثم أيأس فأقوم فأقرأ حتّى أملّ من القراءة. وما كان معي إلاّ كتب معدودة، وكان في صدر الحارة التي سكنّا فيها قهوة فيها رادّ أو حاكٍ (فونوغراف) لا يزال يصدح بالأغاني إلى مَوْهن من الليل (الموهن نصف الليل) بصوت يغطّي دائرةً قطرُها مئة متر، فيعطّل كل مشغول ويوقظ كلّ نائم ويُزعج كل مريض، وصاحب القهوة لِيَطرَب هو ومن عنده يُكرب هؤلاء جميعاً ومثلهم معهم.
وكنت أرى الأصوات وأنا مغمض العينين وأحسّ بها! نعم والله؛ فصوت رفيع ثاقب مثل سنان الرمح، وصوت حادّ مثل شفرة السيف، وصوت ضخم مثل صخرة الجبل، وصوت أجشّ مثل عربة دواليبُها من الحديد تمشي على أرض مبلّطة بالحجارة ... أراها بالعين فلا أنام حتّى أشعر كأنّ أعصابي قد تمزقَت وتقطعَت، وأقوم لصلاة الفجر كالذي مشى عليه فيلٌ فحطّم عظامه، ثم أُصبِح فأغدو إلى المدرسة.
ولمّا طال عليّ الأمر ذهبت إلى المستشفى، وكان فيه («فيه»

الصفحة 47