كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

ولا تبعد بيروت عن دمشق أكثر من بُعد جدة عن مكّة، ولكننا ما كنّا نصل قبل ساعتين، فإن أسرعنا كثيراً نقصنا منهما قليلاً. ذلك لأن طريق جدة سهل تسير فيه على أرض منبسطة في طرق واسعة، وذلك طريق ضيّق، يصعد جبلاً ويهبط وادياً، ولا يزال يلفّ ويدور حتّى يدور رأس الراكب ويحسّ من لفّاته أن حبلاً التفّ على عنقه فكاد يُغشى عليه. كان عند مَيْسلون أكثر من أربعين منعطَفاً، وعند الصعود من شتُورة إلى جدَيْدة مثلها، وسبب ذلك (أقول الحقّ فلا تضحكوا) أن الذي رسم ذلك الطريق حمار!
نعم، الحمار الحقيقي لا مَن هو على المجاز مثل الحمار: كان الدليل يركب حماره ويدَعه يمشي على هواه. والحمار (كما تعلمون، أو لا تعلمون) مهندس بالفطرة، فهو يختار من المصاعد أسهلها فيسلكها، وإذا رأيته يمشي في الجبل على حَرْفه حتّى لتظنّه سيسقط في الوادي فلا تحسب أنه يفعل ذلك جهلاً، بل يفعله مفاخرة لإثبات القدرة على التوازن!
والحمار مظلوم، فمن سبّ منّا آخر قال له: يا حمار، فيغضب، مع أن الحمار أحقّ بالغضب إن قيل له: يا إنسان! نعم، إن جنس الإنسان أفضل والله كرّم بني آدم وقدّرهم، ولكن مِن بني آدم مَن ينزل بنفسه عن مكان استحقاق التقدير فيصير أضلّ سبيلاً من الحمير.
وهل يجترح الحمار من السيئات ما يجترح مثلَه الإنسان؟ من رأى منكم حماراً يجحد ربه، أو يغش زميله، أو يخون قومه،

الصفحة 57