كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

تدخل الوادي من قَبيل جونيه. ومن بيروت إلى جونيه تمرّ بأنطلياس بلد البرتقال والليمون والموز، تمشي في ظلال أشجار دانية الثمار ولكن لا ترى في هذا كله منارة مسجد، حتّى تبلغ جسر نهر الكلب. ونحن نقول في دمشق إننا أبناء بردى، فماذا لعمري يقولون؟!
كان هذا النهر يُسمّى قديماً «ليكوس». وإلى يمينك وإلى يسارك وأنت تقبل على الجسر جدار من صخر الجبل فيه سجلّ تاريخي، فكلّما مرّت على البلاد أمة أو حكمتها دولة نقشت عليه ذكراها؛ فمن الفراعنة إلى ملوك ما بين الرافدَين، إلى اليونان والرومان والبيزنطيين، ثم الفرنسيين والإنكليز. ويقرب عدد هذه اللوحات (بمقدار علمي) من عشرين لوحة، آخرها التي وضعها الرئيس بشارة الخوري في أول سنة 1947، أي بعد تاريخ هذه الحلقة من الذكريات بعشر سنين. بعضها بحروف مسمارية، وأخرى باللغة البابلية القديمة، والبابلية الجديدة، وثالثة باليونانية ورابعة باللاتينية، وبين ذلك لوحات عربية.
ومن هناك بعد عدة أكيال تدخل مغارة «جعَيْتا»، وهي ثلاث مغارات من عجائب ما في الطبيعة يحتاج وصفها إلى حلقة كاملة. ثم تصل إلى خليج جونيه الذي كان من أجمل الخلجان الآمنة المطمئنة.
أمّا من أراد صخب الحياة وضجيجها ورؤية الحضارة بجمالها وقبحها فعليه بطريق عاليه، ينعطف إلى اليسار إلى بحمدون وصوفر، أو يمضي إلى اليمين إلى سوق الغرب ثم إلى

الصفحة 72