كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

أربعين يوماً، وما سُمح لي بأن أنقلب على جنبي إلاّ بعد زمن طويل! ما كان قد عُرف البنسلين، وكان التخدير خنقاً متعمَّداً، لا أزال أذكره إلى الآن. وضعوا على أنفي كمامة فيها كلوروفورم أو أثير أو أمثال ذلك ممّا كان يخدّر به في تلك الأيام، وضغطوها وأنا أحس بالاختناق. وكنت أسمعهم يقولون "خلص تخدّر"، فأشير بكفي أنْ لا، قالوا: هل يدمن المسكرات حتّى لا يؤثّر فيه البنج؟! ما علموا أني بحمد الله لم أقترب منها ولم أدخل أماكنها، فضلاً عن أن أشربها.
وكان الصحو من البنج أصعب عليّ منه، فأنا إن نمت على ظهري دخت. فلما بدأت أصحو وجدتُني مثبّتاً في السرير مربوط اليدين والرجلَين، كأني معتقَل في سجن ظالم لا يخشى الله وليس له قلب، وما له من الإنسانية إلاّ أنه يمشي على اثنتين وليس له ذَنَب. ومن شدة ضيقي شددت الرباط فقطعته، وكنت امرأً رياضياً قوياً متين الجسد مشدود العضلات.
أمضيت هذه المدّة كلها من أجل عملية الزائدة، وقد شُقّ بطني شقاً طوله ثمانية عشر معشاراً (18 سانتي). ومنعوا عني الماء، فكنت أمدّ يدي إلى كيس الثلج الموضوع على بطني فأستخرج قطعة صغيرة أمسحها حتّى أنظفها، ثم أضعها في فمي فأشرب منها ماء بارداً، لأني لم أكن مقتنعاً بقولهم إن الشرب يضرّني.
وقد صدقت الأيام قولي، فلما قامت الحرب العالمية بعد ذلك بسنتين وجعل الجنود يقطعون الزائدة لئلاّ تلتهب أثناء القتال فتؤلمهم، قرأت أن جماعة منهم كانوا مجتمعين في المستشفى

الصفحة 82