كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 4)

وسيكون إن شاء الله حديثاً مفصّلاً بمقدار ما بقي في ذهني من تفاصيله، ولكن أقول الآن: إني لمّا رأيتني غائصاً في الماء أحاول أن أتنفّس فلا أجد الهواء، وأن أثبّت قدمي على أرض راسية فلا تصل إلى شيء ثابت، وأمدّ يدي فلا تعلقان بشيء، وكنت في مكان منفرد ما حولي أحد ... سأذكر لكم ما الذي كنت أشعر به في تلك اللحظات: لقد رأيت فيها أنّ كلّ ما في الدنيا قبض الريح. ابسط يدك وامددها في مهبّ الريح ثم اقبضها وشدّ أصابعك عليها، ثم انظر ما الذي أمسكَت يدُك؟
لقد نسيت كثيراً ممّا قرأت، ولكن كلمات وقعت عليها مصادفة أو سمعتها من مدرّس أو صديق بقيَت عالقة في ذهني، في مكان عال لا يبلغه ليسحبه معه سيل النسيان، ومن هذه الكلمات التي وجّهَت حياتي كلمة لابن الجوزي في كتابه «صيد الخاطر» الذي حقّقه أخي ناجي، وكتبت له مقدّمة طويلة وعلّقت عليه تعليقات كثيرة.
كان رمضان الذي مضى في قلب الصيف وقد أمضيتُه في مكّة في أشدّ الحرّ. وأيام الصيف أطول الأيام، فاذكروا كم يقاسي الصائم من العطش والجوع. إنه يرى في كأس الماء البارد نعمة لا تعدلها أموال المصارف، فإذا أذّن المغرب وشرب فما الذي يبقى له من آلام الصيام؟ وإذا غلبَته نفسه فأفطر فأصاب اللذّة بشرب الماء، ما الذي يبقى له من هذه اللذّة عند المساء؟ إن اللذائذ المحرمة تذهب ويبقى عقابها، وآلام الطاعة تذهب ويبقى ثوابها. هذه هي كلمة ابن الجوزي.
* * *

الصفحة 89