كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 9)

"""""" صفحة رقم 143 """"""
يُعْد إليها ولو جهده الجوع ، وإذا أكل أكلة يقيم يومين وليلتين بلا طعام لكثرة امتلائه ، ويلقيه بعد ذلك شيئاً يابساً مثل جَعْر الكلب ، وإذا بال رفع إحدى رجليه كالكلب ، وإذا فقد أكله صعُب خُلقه . وإذا امتلأ بالطعام فهو وادع ، وأكل الجيف أحب إليه من أكل اللحم الغريض الغض ، وهو لا يفترس الإنسان للعداوة ولكن للطُّعم فإنه لو مر به وهو شبعان لم يتعرض له ، وهو ينهس ولا يمضغ ، ويوصف بالبخر ، ولحم الكلب أحب اللحمان إليه ، ويقال : إن ذلك لحنقه عليه ، فإنه إذا أراد التطواف في جنبات القرى ألحّ الكلب في النباح عليه والإنذار به ، فينهض الناس ويتحرزون منه ، فيرجع بالخيبة ، فهو إذا أراد ذلك بدأ بالكلب ليأمن إنذاره ؛ ومن شأنه أنه إذا أكثر من أكل اللحم وحسو الدم وحلت نفسه منهما ، طلب الملح ولو كان بينه وبين عريسته خمسون ميلاً . وأما ما في الآساد من الجراءة والجبن - فجرائته معروفة مشهورة ، غير منكوره ، فمنها أنه يقبل على الجمع الكثير من غير فزع ولا اكتراث بأحد ولا مهابة له ، وقد شاهدت أنا ذلك عياناً ، وهو أنني ركبت ليلة في شوال سنة اثنتين وسبعمائة من بيسان الغَوْر إلى قراوي في نحو خمسة عشر فارساً وجماعة من الرجال بالقسي والتراكيش - وكانت ليلة مقمرة - فعارضنا أسد ، ثم بارانا وسايرنا على يمنة طريقنا عن غير بعد ، بل أقرب من رشقة حجر ، لا أقول : من كفّ قويّ فكان كذلك مقدار ربع ليلة ، فلما أيس من الظفر بأحد منا لتيقظنا قصّر عنا ، ثم تركنا إلى جهة أخرى . قالوا : والأسد الأسود أكثر جراءة وجهالة وكلباً على الناس ؛ قالوا : وإن أجئ الأسد إلى الهرب أو أحس بالصيادين تولى وهو يمشي مشياً رفيقاً ، وهو مع ذلك متلفت يظهر عدم الاكتراث ، فإن تمكن منه الخوف هرب عجلاً حتى يبلغ مكاناً يأمن فيه ، فإذا علم أنه أمن مشى متئداً ، وإن كان في سهلٍ وألجئ إلى الهرب جرى جرياً شديداً كالكلب ، وإن رماه أحدٌ ولم يصبه شد عليه ، فإن أخذه لم يضره ، وإنما

الصفحة 143