كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 9)

"""""" صفحة رقم 176 """"""
فأنسل وبره إنسالاً ، وأرسل دمه إرسالاً ؛ بأنياب عُصْل ، أمضى من نصل ، ومخلب كمنقار الصخر ، دربٍ بالاقتناص والعقْر ؛ فيُصيّر قرنه ممزّق الإهاب ، مستبصراً في الذهاب ، قد أفلت من بين أظفار وأنياب ، ورضي من الغنيمة بالإيّاب ؛ هذا وهو يخاتله دون جُنّه ، ويقاتله بلا سيوفٍ ولا أسنّة ؛ وإنما جُنّته ، مُنّته ؛ وشِفاره ، أظفاره ؛ وسِنانه ، أسنانه ؛ إذا سمعت الفئرة منه مُغاء ، لم تستطع له إصغاء ؛ وتصدّعت قلوبها من الحَدَر ، وتفرّقت جموعها شَذَر مَذَر ؛ تهجَع العيون وهو ساهر ، وتستر الشخوص وهو ظاهر ؛ يسري من عينيه بنيّرين وضّاحين ، تخالهما في الظلام مصباحين ؛ يُسوف الأركان ، ويطوف بكلّ مكان ؛ ويحكي في ضِجعته تحنّياً ، وقضيب الخيزران تثنّياً ؛ ثم يغطّ إذا نام ، ويتمطّى إذا قام ؛ ولا يكون بالنار مستدفئاً ، ولا للقِدر مُكفئاً ؛ ولا في الرماد مضطجعاً ، ولا للجار منتجعاً ؛ بل يدبّر بكيده ، وينتصر على صيده ؛ قد تمرّن على قتل الخِشاش ، وافترس الطير في المسارح والأعشاش ؛ يستقبل الرياح بشمه ، ويجعل الاستدلال أكبر همّه ؛ ثم يكمن للفأر حيث يسمع لها خَبيثاً ، أو يلمح من شيطانها دبيباً ؛ فيلصق بالأرض ، وينطوي بعضه في بعض ، حتى يستوى منه الطول والعرْض ؛ فإذا تشوّفت الفأرة من جحرها ، وأشرفت بصدرها ونحرها ؛ دبّ إليها دبيب الصِّلّ وامتدّ إليها امتداد الظلّ ؛ ثم وثب في الحين عليها وجلب الحين إليها ؛ فأثخنها جراحاً ، ولم يعطها بَراحاً ؛ فصاحت من شدة أسره ، وقوة كسره ؛ وكلّما كانت صيحتها أمدّ ، كانت قبضته عليها أشد ، حتى يستأصل أوداجها فَرْياً ، وعظامَها بَرْياً ، ثم يدعها مخرجة الدماء ، مضرجة بالدماء ؛ وإن كان جُرذاً مسِناً ، لم يضع عليه سنّاً ؛ وإن كان درصاً صغيراً فغر عليه فاه ، وقبض مترفقاً على قفاه ؛ ليزداد منه تشهّياً وبه تلهّياً ؛ ثم تلاعب به تلاعب الفُرسان بالأعنة ، والأبطال بالأسنة ؛ فإذا أوجعه عضّاً ، وأوعبه رضّاً ؛ أجهز في الفور عليه ، وعمد بالأكل إليه ؛ فازدرد منه أطيب

الصفحة 176