كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 9)

"""""" صفحة رقم 187 """"""
آفةٌ عظيمةٌ من الحيوان ، وهو الذي يُعرف بالزبرق أصغر من الفهد ، أحمر اللون برّاق العينين ، سريع الوثبة ، يبلغ في وثبته إلى خمسين ذراعاً وأكثر ، فإذا أشرف على الفيلة رش عليها ببوله ، فيُحرقها ، وربما لحِق الإنسان فمات ؛ وهذا الوحش إذا أشرف على أحد من أهل الهند التجأ إلى أكبر شجر الساج ، وارتقى إلى أعلاها ، فيأتي هذا الوحش إليها ويثِب ، فإن أدركه رش عليه ببوله ، فأحرقه وإن عجز عنه وضع رأسه بالأرض وصاح صياحاً عجيباً ، فتخرج من فمه بأسفل الفتحة بوله عليه ؛ قالوا : وللهند طِيبٌ يجمعونه من جباه الفيلة ورؤوسها ، فإنها إذا اغتلمت عَرُفت هذه الأماكن منها عَرفاً كالمسك ، فهم يستعملونه لظهور الشَّبق في الرجال والنساء ، وهو يقوّي النفس ، ويشجّع القلب ؛ قالوا : والفيل يشِبّ إلى تمام ستّين سنة ، ويُعمّر مائتي سنة ؛ وأكثر ؛ وحكى أرسطو أن فيلاً ظهر عمره أربعمائة سنة ؛ وحكى بعض المؤرخين أن فيلاً سجد لأبرويز ، ثم سجد للمعتضد ، وبينهما الزمان الذي ذكره أرسطو واعتُبر ذلك بالوسم ؛ ووقفت على حكايةٍ تُناسب ما نحن فيه ، أحببت أن أثبتها في هذا الباب ، وهي : حكى الإمام الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني في كتابه الموسوم بحلية الأولياء ، قال : حدّثنا محمد بن الحسن ، قال : حدّثنا عبد الوارث بن بُكَير : أن أبا عبد الله القَلانسيّ ركب البحر ، فعصفت عليهم الريح في مَركبهم ، فدعا أهل المركب وتضرّعوا ، وندروا النذور ، فقالوا : أي عبد الله ؛ كلّنا قد عاهد الله ونذر نذراً إن أنجانا الله ، فانذر أنت نذراً ، وعاهدْه عهداً ؛ فقلت : أنا مجرّدٌ من الدنيا ، ما لي وللنذر ؛ فألحّوا عليّ فيه ؛ فقلت : لله عليّ إن خلّصني مما أنا فيه لا آكل لحم الفيل ؛ فقالوا : ما هذا النذر ؟ وهل يأكل لحم الفيل أحد ؟ فقلت : كذا وقع في سري ، وأجراه الله على لساني ؛ فانكسرت السفينة ، ووقعت في جماعةٍ من أهلها إلى الساحل ، فبقينا أيّاماً لم نذق ذَواقاً ، فبينا نحن قعودٌ إذا نحن بولد فيل ؛ فأخذوه فذبحوه وأكلوا من لحمه ، وعرضوا عليّ أكله ، فقلت : أنا نذرت وعاهدت الله أن لا آكل لحم الفيل ، فاعتلّوا عليّ بأني مضطر ، ولي فسخُ العهد لاضطراري ، فأبيت عليهم ، وثبتُّ على العهد ، فأكلوا وامتلأوا وناموا ، فبينما هم نيامٌ إذ جاءت الفيلة تطلب ولدها ، وتتبع أثره ، فلم تزل تشم الرائحة حتى انتهت إلى عظام ولدها ، فشمّتها ، ثم جاءت وأنا أنظر إليها ، فلم تزل تشم واحداً واحداً ، فكلما شمت من واحدٍ رائحة اللحم داسته برجلها أو بيدها فقتلته ، قطع من الدم ويموت من ساعته ويحترف من الشجرة ما يقع حتى قتلتهم كلّهم ، ثم أقبلت إليّ ، فلم تزل تشمّني فلم تجد مني رائحة اللحم ، فأدارت مؤخّرها وأومأت إليّ بخرطومها أن أركب ؛ فلم أقف على ما أومأت

الصفحة 187