كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 10)

"""""" صفحة رقم 165 """"""
ونقل القصب وشقق الخوص ، وأشباه ذلك من العيدان الخوّارة الدّقاق ، حتى يعملا أفحوصةً وينسجاها نسجاً متداخلاً في الموضع الذي اتّخذاه واصطنعاه عشّاً بقدر جثمان الحمامة ؛ ثم أشخصا لتلك الأفحوصة حروفاً غير مرتفعةٍ لتحفظ البيض وتمنه من التّدحرج ، لتلزم كتفي الجؤجؤ ، ولتكون رفداً لصاحب الحضن ، وسنداً للبيض ؛ ثم يتعاوران ذلك المكان ويتعاقبان تلك الأفحوصة يسخّنانها ويدفئانها ويطيّبانها وينفيان عنها طباعها الأول ويحدثان لها طبيعةً أخرى مشتقّةً من طبائعهما ومستخرجةً من رائحة أبدانهما وقواهما ، لكي تقع البيضة إذا وقعت في موضع يكون أشبه المواضع طباعاً بأرحام الحمام مع الحضانة والوثارة ، كي لا تنكسر البيضة بيبس الموضع ، ولئلا تنكر طباعها طباع المكان ، وليكون على مقدارٍ من البرد والسّخونة والرّخاوة والصّلابة . ثم إن ضربها المخاض وطرّقت ببيضها ، بدرت إلى الموضع الذي قد أعدّته وتحاملت إليه ، إلاّ أن يقرعها رعدٌ قاصفٌ أو ريحٌ عاصفٌ فإنها ربما رمت بها دون الأفحوصة . والرّعد ربّما أفسد البيض . فإذا وضعت البيض في ذلك المكان الذي أعدّاه لا يزالان يتعاقبان الحضن ويتعاورانه حتى تنتهي أيامه ويتمّ ميقاته ؛ فعند ذلك ينصدع البيض عن الفرخ ، فيخرج عاري الجلد صغير الجناح مستدّ الحلقوم ؛ فيعلمان أنّه لا يتسع حلقه وحوصلته للغذاء ، فلا يكون لهما همٌّ إلاّ أن ينفخا في حلق الفرخ الرّيح لتتّسع الحوصلة بعد التحامها . ثم يعلمان انه وإن اتّسعت الحوصلة لا يحمل في أوّل اغتذائه أن يزقّ بالطّعم ، فيزقّ باللّعاب المختلط بقواهما وقوى الطّعم . ثم يعلمان أنّ الحوصلة تضعف عن استمراء الغذاء وهضم الطّعم فيأكلان من شروج أصول الحيطان ، وهو شيء من الملح المحض والتراب الخالص ، وهذا هو السّبخ ، فيزقّانه به . حتى إذا علما أنه قد اندبغ واشتدّ زقّاه بالحبّ الذي قد غبّ في حواصلهما ؛ ثمّ يزقّانه بعد ذلك بالحبّ والماء . حتى إذا علما أنه قد أطاق اللّقط منعاه بعض المنع ليحتاج إلى اللّقط فيتعوّده . فإذا علما أنّ إرادته قد تمّت وأنه قد قوي على اللّقط وبلغ بنفسه منتهى حاجته ، ضرباه إذا سألهما الكفاية ، ونفياه متى رجع إليهما وتنتزع تلك الرحمة العجيبة منهما وينسيان ذلك التعطّف . ثم يبتدئان العمل ثانياً على ذلك النظام وتلك المقدّمات . فسبحان الهادي الملهم .
قال : ثمّ يبتدئ الذّكر بالدّعاء والطّراد ؛ وتبتدئ الأنثى بالتّأتّي والاستدعاء ، ثم

الصفحة 165