كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 10)

"""""" صفحة رقم 210 """"""
سمعت للطير صياحاً والطرب كلّه في ذلك الصياح ؛ وإن عشوا مقاماتهم وجه عشاء رأيت الطير وهي لدى محاريب قسيّهم وهي سجود وركّع ، طرائح من بيضٍ وسودٍ كأنّ أديم الأرض منهنّ أبقع . وإن تعلّقوا بأذيال الليل وسجفه ، وباتوا في عطفه ؛ احتمى منهم بشهبه ، وتسترّ في حجبه ؛ وتوارى عنهم البدر بذيل الغمام ، وهال هالته أن تبدو لقسيّهم الموتّرة بالحمام . إلى غير ذلك مما التزموه من محاسن أوصاف وأوصاف محاسن ، ووردوه من مناهل مصافاةٍ ماؤها غير آسن ، ووجدوه من طيب عيش ما لانوا معه ولا استكانوا إلى المساكن ؛ وحفظوه من صناعهم من شروطٍ وأوضاع ، ووقفوا في مقاماتهم من مطيع ومطاع ؛ يرعون قدر كبيرهم ، ولا يراع بينهم قلب صغيرهم ؛ ويتناصفون في أحكامهم ، فالحكم واحد على آمرهم ومأمورهم . إن تفرّقوا فهم على قلب رجل واحد ، وإن اختلفت منهم المقاعد فقد اتفقت منهم المقاصد . ما خلا جوّهم من واجب الطاعه ، ولا علا بينهم كبيرٌ إلاّ بذلوا في خدمته جهد الاستطاعه ؛ وأضحوا وأمرهم عليهم محتوم ، وأمسوا وما فيهم إلا من له مقامٌ معلوم ؛ بأيديهم قسيٌّ قاسيه ، قضبانها قاضيه ؛ منعطفةٌ جافيه ، بعوثها في الخوافي خافيه ؛ تمثّلها الأفكار في ساحة الفضاء ، كزوارق مبثوثةٍ في لجّة الماء . وكيف لا وهي تحمل المنايا إلى الطير ، وإن لم تكن سائرةً فلها بعوثٌ سريعة السير ؛ كأنّ صانعها قصد وضعها كالأهلّة واقترح ، أو حكى مدبّج أثوابها قوس قزح ؛ وكأن ظهرها وقد تنوّعت به من الغروز مدارجه ، مدر سحيق ورسٍ دبّ عليه من النمل دارجه ؛ إذا حطّت عنها أوتارها كانت عصاً لربّها فيها مآرب ومغانم ، يوجس الطير في نفسه منها خيفةً وكيف لا وهي في شكل الأراقم ؛ متضادّة تجفو وتلين ، موتورةٌ وغيرها حزين ؛ تضمّها أنامل من يسراهم هي أيمن من يمين عرابة بن أوس ، ويطلع كلٌّ منهم في فلكها والطّالع القمر في القوس ؛ لا تعتصم منها الطّرائد بالخباء في وكر الدّجنّه ، ولا يخفيها اتخاذها الظّلماء جنه ؛ ولا يوقّيها نزقها ، ولا ينقيها ملقها ولا تنجح بخفق الجناح ، ولا تستروح بمساعدة الرياح ؛ لها بنادق كأنها حبات القلوب لوناً ، وأشكال العقود كوناً ؛ كأنما صبغت من ليل وصيغت من شهب ، أو صنعت من أديم للسّحب ؛ تفرد من الطير التّؤام ، وتجمع بين روحها والحمام ؛ قد تحاماها النّسران فاتخذا السماء وكراً ، واتفقا أن يصبحا شفعاً ويمسيا وتراً ؛ تقبض منها الأيدي عند إطلاقها رائحةً رابحه ، جارحةً

الصفحة 210