كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 10)

"""""" صفحة رقم 74 """"""
ذكر ما قيل في الجاموس
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ : والجواميس هي ضأن البقر . والجاموس أجزع الحيوان من البعوض وأشدّها هرباً منه إلى الماء ؛ وهو يمشي إلى الأسد رخيّ البال ، رابط الجأش ، ثابت الجنان . وقد حكي عن المعتصم بالله العباسيّ أنه أبرز للأسد جاموستين فغلبتاه ، ثم أبرز له جاموسةً ومعها ولدها فغلبته وحمت ولدها ، ثم أبرز له جاموساً مفرداً فواثبه ثم أدبر عنه . هذا على ما في الأسد من القوّة في فمه وكفّه والجرأة العظيمة والوثبة وشدّة البطش والصبر والحضر والطّلب والهرب ؛ وليس في الجاموس ، ولا يستطيل بغير قرنه ، وليس في قرنه حدّة قرن بقر الوحش ؛ فإذا قوي الجاموس مع ذلك حتى يقاوم الأسد دلّ على قوّة عظيمة . ولذلك قدّم الجاحظ الجاموس على الأسد ، وعلّل تقديمه عليه بهذه العلّة . وليس ما حكي عن المعتصم في أمر الجاموس وغلبته للأسد بعجيب ؛ فإنّ الجواميس بالأغوار تقاتل الأسد وتمانعه وتدفعه فلا يقدر على قهرها . وأصحاب الجواميس هناك منهم من يغلّف قرونها بالنّجاس ويحدّدون أطرافه ، ويقصدون بذلك إعانته على حرب الأسد وقتاله .
والجاموس عندنا بالديار المصرية يقاتل التّمساح الذي هو أسد البحر ويتمكّن منه ويقهره في الماء ؛ فهو قد جمع بين قتال أسد البرّ وأسد البحر . وله قدرةٌ عظيمة على طول المكث في قعر البحر . والتماسيح لا تكاد تأوي موارد الجواميس من بحر النيل وتتجنّب أماكنها .
والجواميس في أرض الشأم من الأغوار والسواحل والأماكن الحارّة الكثيرة المياه ينتفع بها في الحرث والحمولة وجرّ العجل وحلب ألبانها . وأمّا في الدّيار المصرية فلا يستعملونها البتّة ولا ينتفعون بها إلا بما يتحصّل من ألبانها ونتاجها .
وفحول الجواميس يكون بينها قتالٌ شديدٌ ومحاربةٌ ؛ فأيّما فحلٍ غلب وقهره خصمه ، لا يأوي ذلك المراح ، بل ينفرد بنفسه في الجزائر الكثيرة العشب شهوراً وهو يأكل من تلك الأعشاب ويشرب من ماء النيل ، وينفرد خصمه بالإناث ؛ فإذا علم الهارب من نفسه القوّة والجلد ، رجع إلى المراح وقد توحّش واستطال ، ويكون خصمه قد ضعفت قواه فلا يقوم بمحاربته ؛ ولكنه لا يولّي عنه إلا بعد محاربته . فإذا قهره ترك الآخر المراح وتوجّه إلى جزيرة وفعل كما فعل الأوّل وعاد إلى خصمه .
ولبن الجاموس من ألذّ الألبان وأدسمها . والرّعاء يسمّون كلّ جاموسة باسم تعرفه إذا دعيت به إلى الحلب ، فتجيب وتأتيه وتقف حتى يحلبها .

الصفحة 74