[56] ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وهو قيصر عظيم الروم، وحديث أبي سفيان هرقل في المدة التي ماد فيها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أبا سفيان وأهل مكة
3918 - (خ، م) - حدثنا أبو منصور، قال: ثنا أبو بكر، قال: ثنا أبو القاسم، قال: ثنا عبد الرحمن بن عمرو، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله:
أن عبد الله بن عباس أخبره: أن أبا سفيان بن حرب أخبره: أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا في الشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهو بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم وترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم به نسبا، فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه، فجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذب فكذبوه، قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء أن يأثروا علي كذبا لكذبته عنه.
قال: ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: #34# لا، قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول الذي قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال؛ ينال منا، وننال منه، قال: فماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة وبالصدق والعفاف والصلة، فقال للترجمان: قل له: إني سألتك عن نسبه، فذكرت: أنه فيكم ذو نسب؛ وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت: أن لا؛ فقلت: لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله قلت: رجل يأتم بقول قيل قبله، وسألتك: هل كان في آبائه ملك؟ فذكرت: أن لا؛ فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا؛ فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت: أن ضعفاؤهم اتبعوه؛ وهم أتباع الرسل، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنهم يزيدون؛ وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك: أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا؛ وكذلك #35# الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا؛ وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك: بما يأمركم؟ فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة وبالصدقة والعفاف والصلة؛ فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وهو نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أكن أظن أنه منكم؛ ولو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه.
ثم دعا بكتاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الذي بعث به دحية الكلبي إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه، فإذا هو: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بداعية الإسلام؛ أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا} الآية)).
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال: وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات، وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة؛ إنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.
وكان ابن ناطور، وهو صاحب إيلياء، وهرقل سقفه على نصارى الشام، يحدث: أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس، #36# فقال له بعض بطارقته، لقد أنكرنا هيئتك؟! –فقال ابن ناطور: وكان هرقل رجلا حزاء ينظر في النجوم-، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر؛ فمن يختتن من هذه الأمم؟ فقالوا: ليس يختتن غير اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود، فبينا هم على أمرهم ذلك أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبره عن خبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا: مختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه، فحدثوه أنه مختتن، فسأله عن العرب: أيختتنون؟ فقال: نعم، هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.
فكتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق هرقل على خروج رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع، فقال ينصهم: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم؛ تتبعوا هذا الرجل؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد أغلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي التي قلت لكم آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت الذي أحب منكم، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.
وفي رواية: وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لما آتاه الله عز وجل، فلما أن جاء قيصر كتاب #37# رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه: التمسوا إلي أحدا من قومه؛ لأسألهم عنه، فوجدوا أبا سفيان ببعض الشام، فأتي به إليه في مجلسه وعليه التاج.