كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 5/ 2)

وآخر يهوي إلى درك لو زحزح عنه إلى ما دونه التحق عند أولي البصيرة بمنازل الأنعام، وبين هذين المرتبتين مقامات أوسع من أن يحيط بكثرتها التفضيل.
والذي يلقنك الحكمة في هذا التفاضل: قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]. فلو وقف الناس في الفضل صفًا واحداً، وتماثلوا في هممهم ومكتسباتهم، لفسد نظام الاجتماع، واختل أمر المعاش والعمران؛ فإن فيما تمس إليه حاجتهم، وتستدعيه نشأة حياتهم، ما يأبى بعض أولي الهمم أن يباشر عمله بنفسه، وإن غشيه من الأذى ما غشيه، وقد تضعف به الاستطاعة، أو لا يهتدي السبل إلى تحصيله، فيفتقر في هذه الأحوال إلى ذي همة نازلة، أو قدرة أوسع، أو بصيرة أقوى.
وفيما تدعوك إليه الحاجة ما لا يرضى غيرك أن يصرف جهده فيه، ويشغل به وقته إلا تجاه عوض من المال، ومتى كان الناس في كفاية وغنى عن العوض، لم يتنازلوا إلى معونتك فيما تتقاضاه حياتك من المطالب، وقصر مجهودك عن أن نقوم به وحدك.
وإذا كان التفاضل في الخليقة وارداً على مقتضى الحكمة، فلا يجمل بالرجل يأنس في نفسه المقدرة على إدراك منزلة، ولكنها دون الغاية البعيدة، أن يحبس عنانه، ويبقى عاكفاً في زوايا العجزة؛ بدعوى أنه لا يقنع إلا بالأمد الأسمى من السيادة، ولو أخذ هذا بقبس من مراقبة أسرار الكون، لأمضى عزمه، واندفع في سيره ليبلغ إلى الغاية المستطاعة.
وما كان ينبغي للرجل حين تقوم له في سبيل مجده عقبات تقطع عنه

الصفحة 219