كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 5/ 2)

يتحلى بها أفضل الخليقة - صلى الله عليه وسلم -. ومن هنا ينكشف لك الستار عما قرره القرافي في قصة فرار الشيطان من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ونفقه كيف انتقض جوابه بأن اختصاصه بهذه المزية لا تقتضي تفضيله على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ اعتباراً بقاعدة: أن المزية لا تقتضي الأفضلية.
والحق ما سنح لخاطر أبي إسحاق الشاطبي من أن فرار الشيطان من ابن الخطاب إنما عدّ مزية له؛ حيث كان كافلًا بحفظه من إغوائه وصيانته عما ينفثه في الصدور من الوساوس، ولا ريب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معصوماً من نزعاته، اَمنًا من تزييناته، وإن قرب من ساحته. ويوضح هذا: أن المزية غاية تحصل بوسائل تختلف؛ كالعلم - مثلاً - يناله أحد بمطالعة كتاب، ويتلقاه آخر من تقرير أستاذ، فلا يقال: إن لمكتسب العلم من كتاب مزية عمن تلقفه من فم معلم، متى استويا في الغاية التي هي العلم.
يقول بعضهم: لا يعرف مقدار فضل الرجل إلا من كان مساوياً له في مرتبته، أو أعلى. وهذا مثل ما قال تقي الدين السبكي حسبما نقله التاج في "طبقاته": "لا يعرف قدر الشخص في العلم إلا من ساواه في رتبته، وخالطه". ومقتضاه: أن لا ينتصب للتفضيل بين العالِمَيْن إلا من كان في منزلتهما، أو أرقى درجة.
وأنت إذا علمت: أن من الناس من لا يصل إلى أن يستظهر الحقائق من مخبآتها، ولكنها إذا استخرجت، ووضعت أمامه في أخلاط من الباطل، عرفها بصفاء فطرته، وميّزها من غير أن تلابسه ريبة، تحققتَ أن الرجل قد يبلغ به الذوق الخالص إلى أن يعرف من كان ينطق بالقضايا التي تنحو نحو المقاصد البعيدة، ويفرق بينه وبين من لم ترتفع بهم مداركهم عن الخوض

الصفحة 221