كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 5/ 2)

وقد مثّل تعالى حال من نفروا عن العظة، ونأوا بجانبهم عن الإصاخة إليها، بحال الحمر المتوحشة إذا عاينت أسداً، امتلأت منه فزعًا، وطاشت عن ساحته فالتة، فقال: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 50، 51]. وفي إلحاقهم بالحمر، ووضعهم معها في قران التشبيه، إيذان بأن منزلتهم في الحطّة ما برحت بإزاء منازلها، وأن قوى مداركهم لم تصعد بهم إلى مطالع الشرف قيد أنملة؛ حيث أصبحت عارية عن إدراك ما فيه سعادة دائمة.
وقال تعالى في جملة ما قصه علينا من أقوال الضالين عن سنّة هدايته: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك: 10]، الآية؛ فهؤلاء لم يريدوا سلب حقيقة العقل من أنفسهم بحسب الواقع، وإنما اعتبروه بمثابة المعدوم، وأطلقوا في نفيه حيث لم يجتنوا به ثمرة الإيمان الواجب، ولم يستضيئوا به في البحث عن التعاليم المفيدة.
ولا تلابسك الحيرة في قضية أن العقل مطلع كل شرف، إذا بلغت إلى قول الفقهاء: إن شدة الذكاء تفوت بصاحبها عن أهلية الولاية للقضاء. فاشترطوا للحاكم أن لا يكون زائدًا في الدهاء, فإن المراد من الذكاء: سرعة انقداح النتائج، وسهولته على النفس، وهذه هي الفضيلة. ويعني بالإفراط فيها: اختطاف صورة الأمر أو القضية من غير إحكام فهم، ولا تثبت في المأخذ.
ووجه العيب في هذا: ما قد يعرض له من الاختلال في التصورة حيث لم يضع فكره على غضون الصورة أو القضية ولم يحط بها من سائر أطرافها.
قال ابن خلدون: إن فرط الذكاء والكَيس عيب في صاحب السياسة؛ لأنه إفراط في الفكر، كما أن البلادة إفراط في الجمود، والطرفان مذمومان

الصفحة 226