كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 5/ 2)

من كل صفة إنسانية، والمحمود هو التوسط. وساق على هذا: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما عزل زياد بن أبي سفيان عن العراق، قال: لم عزلتني يا أمير المؤمنين، ألعجز، أم لخيانة؟ فقال: لم أعزلك لواحدة منهما، ولكنني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس.
ويلوح في التفقه من هذه القصة: أن فضل عقل زياد لم يكن من قبيل اختطاف الصورة من غير إحكام فهم حتى يكون خدشة في نفس تصوره، بل كان زياد بصفة من يحيط بالقضايا، وما ينشر لديه من النوازل، ويوفيها حقها من النظر وتطبيق الدليل، وإنما يدركه الذهول عن سبر عقول الجمهور، وتحرير قدر ما تحتمله من الأوامر في السياسة، فقد يقتضي الحال تأخير ما لا تصل إليه أفهامهم، ولو كانت المصلحة المرتبطة به أعظم؛ كيلا يعتقدوا به العنت والاعتساف، ويهوشوا عليه بالنكير، فيفضي الأمر إلى نزل وسخط لا تحمله عاقبته. ففضل عقل زياد بمعنى: اتساع أنظاره، والرمي بها إلى غايات من المصالح التي تكلّ دونها أبصار الجمهور، لا يسحب إليه خللاً في نفس ذكائه؛ ضرورة أن الجمهور لو اقتربوا من أنظاره، وتلقوها على كاهل القبول، لما وجه إليه عمر بالمؤاخذة، ولو كان فضل عقله من قبيل الوجه الأول، وهو الاستعجال في فهم الأمر من غير ترّو منه، لم يعبر عنه عمر بفضل العقل، ولحق عليه الانفصال عن الولاية، ولو رضيه الناس.
ويزيدك خبرة بأن ما توفر لزياد وأمثاله من فضل العقل، ليس من العيب الذي تلمز به قوتهم الناطقة أنهم لو أضافوا إلى حدة بصائرهم ممارسة طبائع الرعية، وتحري ما يلاقي مداركهم، ولا يضطرب له نظام راحتهم، كانوا على شرط الكفاءة لأي ولاية تلقى إلى عهدتهم. وبهذا التحرير يظهر أن فرط

الصفحة 227