كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 5/ 2)

يرتسم بواسطة اعتقاد يحضر في النفس، ويتكرر وارده عليها, كخلق الشجاعة ينتقش في الطبيعة بتتابع إدراك أن عاقبة الإقدام شرف دائم، أو راحة خالصة، وأن الحياة على هوان أشد مضاضة، وأمرُّ غصة من الموت في حال عز. فإذا ألقيت بتعليم هذا إلى شخص وبقي بعده مغرماً بحياته، حريصًا على استيفاء ملاذها، فإما أن يكون مع ذلك مستصوباً لآراء الجبناء، فنستيقن أن تلقينك له لم يصل به إلى اعتقاد جازم بقبح الجبن، ومعرة الفزع، وإما أن يعشق حياته، ويرضى برفقة القواعد، وهو يحترم المقدام، ويزدري بمن يماثله في الاندهاش والتسلل من مواقع الخطوب، فنتحقق أن تعليمك إنما أفاده اعتقادًا بفضيلة الشجاعة، ولم يبلغ به إلى أن صيّره خلقاً مكيناً. وإذا كان الخلق نتيجة اعتقاد، فخلق الجبن - مثلاً - حاصل عن اعتقاد أن الإقدام ملقٍ إلى التهلكة، وأن للموت مرارة لا تحتمل، فكيف يجتمع مع اعتقاد فضيلة الشجاعة، وعلو شأن البسلاء؟
إن الخُلق، وإن كان نتيجة اعتقاد، فقد يزول ذلك الاعتقاد، ويخلفه اعتقاد آخر، وتبقى النفس لابسة للخلق الذي أوقعه الاعتقاد الأول، فالقابض يده عن الزكاة- مثلاً -، إن تصرف في إرادته اعتقادٌ يناقض الاعتقاد بفريضتها، كاعتقاد خلوها عن المصلحة، وأنها نقص في الأموال، ومجلبة للفاقة، فقد خرج بذمته عن طوق الإِسلام. ومن أمارة هذا الاعتقاد الزائغ: أنك تسمعه يستخف برأي من يمد يده بها عن سماحة خاطر، وينسبه إلى البله وقلة الكياسة في حفظ المال، أما إذا وثق في اعتقاد وجوبها، ولكنه انكمش عن إيتائها إيثاراً للمنفعة العاجلة، وذهولاً عن هول العاقبة، فهذا هو الذي نثبت له أصل الإيمان, مع استحقاق ذلك الوعيد.

الصفحة 235