كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 5/ 2)

ويؤكد لك أن الاعتقاد بكمال الشيء قد يتفق مع نزوع الطبيعة، ومغالبتها في العمل بخلافه: أنك تجد المتهاون ببعض الواجبات الدينية يرى القائم بحقها على هداية وحكمة، فيعظم في عينه، ويذكره بلسان التمجيد، كما يشهد للفاسق بسفالة الهمة، وسخافة الرأي:
وأبغض مَنْ بضاعتُه المعاصي ... وإن كنا سواء في البضاعة
يذكر فلاسفة الأخلاق قضية اختلافهم في حال النفس عند ابتداء نشأتها، وليس من الغرض بسط المقال في هذه القضية بسرد المذاهب وتقرير "الدلائل" بل الذي يتشبث بمنهج هذه الورقات: أن نمر على صفوتها، ونأخذ بطرف المحرر منها، وهو: أن النفس في مبدأ فطرتها عارية عن سائر الأخلاق خيرِها وشرها، ولكنها فطرت على استعداد وقبول لما يؤثره فيها التعليم والاقتداء من الأخلاق الفاضلة، وهذا الاستعداد هو الذي جعلها متوجهة بفطرتها نحو السبيل الملاقي للحكمة، فإذا ألقمت ثدي التربية، كانت سرعة انطباع الخلق وبطؤه على قدر ما يبلغه ذلك الاستعداد الفطري من القوة والضعف.
وقد يعرض لهذا الاستعداد إنحراف يزين للنفس بعض تعليمات خاسرة، ويريها وجه الأدب سمجاً، فلا تلتفت إليه بإعجاب، مثلما تبتلى حاسة الذوق بسقم تعاف به الماء القراح، وتستلذ به ما لا طعم له، أو ما له طعمٌ خبيث.
ولا تمترِ فيما أومأنا إليه من أن هذا انحراف تصاب به الفطرة على قلة وغرابة، إذا كنت تشاهد من المتهافتين في مستنقع الأخلاق الدنيئة أكثر من القائمين على الأخلاق المهذبة؛ فإن أصحاب الرذائل قد تكون استعداداتهم

الصفحة 236