كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 5/ 2)

الفطرية مستقيمة، والبليةُ إنما وقعت عليهم من جهة تركهم في مضيعة، وعدم مراقبتهم بالتربية، إلى أن اجتذبتهم الأخلاق السافلة. وليس في استطاعتك أن تدرك بيقين أن النفس قد بليت بانحراف في ذات استعدادها، إلا إذا وجهت همتك إلى أحد الأطفال، وأخذت تلقي إليه من الآداب العالية، وترشحه بها يوماً فيومًا إلى أن قضيت في أدبه أمداً بعيداً، وعندما نصبت له وزن الاختبار، وجدته فرغاً من كل أدب رفيع، ورأيت همته منحطة على درك الرذالة.
ومما يرشد إلى أن النفوس متهيئة بطبيعتها إلى الأحوال الشريفة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة"، فقد ذكروا في تفسير الفطرة: أنها الجبلّة السليمة، والطبع المتهيئ إلى قبول الدين. ويلوح إلى ذلك- فيما نبّه عليه بعض المفسرين-: قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]،؛ فإن الآية ضربت مثلاً للنفوس الخيرة، والنفوس المطوية على شر، وقوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} عائد إلى الأولى، وقوله: {وَالَّذِي خَبُثَ} إيماء إلى الثانية، ووجه الدلالة: أن النفس لما كانت مستعدة بفطرتها لأن تكون طيبة، كان الطيب بمنزلة المغروز في فطرتها، فعبّر عنه بالاسم الدال عند أهل البلاغة على مجرد الثبوت، ولما كان الخبث يعرض لها لعلة انحراف أو تلقين، عبّر عنه بالفعل المشعر عندهم بالحدوث.
ولا يتدافع ما تحقق لديك من استعداد طبيعة النفس للفضائل مع ما غرز فيها من قوة الشهوة، فإن هذه القوة لا تعد سيئة إلا إذا تطوحت عن رسم الاعتدال، وهي إنما تتعاظم بتكرر إدراك المحسوسات اللذيذة، وترددها على

الصفحة 237