كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 5/ 2)

مذاقاتها طعماً بعد آخر. ومع هذا التعاظم، فقد تبقى النفس على فطرتها من التوجه إلى الخير، والتعلق بأطرافه، فلا تدخل في أمر الشهوات، وإن بلغت غايتها، وربما كان فوز النفس عليها وهي متعاظمة أدلَّ على المزية من قهرها لها وهي متفانية؛ كما لاحظوه في مساق التفضيل بين البشر والملائكة.
يتعرض الكاتبون في الأخلاق إلى رسومها الفارقة بينها، بحيث تتمايز حقائقها، ولا تختلط حدودها، والذي يعسر أحياناً إنما هو تطبيق تلك الرسوم على الأحوال الخاصة، ومعرفة أن هذا موقع الإقدام - مثلاً فنسمي الإحجام عنه: جبنًا، أو هو موقع الإحجام، فنسمي الإقدام عليه: جرأة، وقد تلتبس بعض المواطن، فلا يدري الناظر هل يحسن فيها الترفع، فيكون التنازل ذلة، أو يليق بها التنازل، فيكون الترفع كبراً؟ فلا بد حينئذ من جودة الرأي، وإمعان النظر في تعرف المواضع التي يصلح فيها مثل الإقدام، أو الصفح، أو البذل، أو الترفع، التي هي آثار الشجاعة، والحلم، والكرم، وعزة النفس. وفي هذا المقام تظهر مزية التربية الخاصة؛ فإنها تعطي للإنسان ملكة التفرقة بين مواقع الأخلاق الفاضلة، والأخلاق السافلة، فالأب والمؤدب يكرران على الصبي تمجيد الحلم وعزة النفس - مثلاً -، ويزيدان على ذلك تنبيهه على مواقعهما حين يغضب بغير حق، أو يتنازل إلى غير أهل.
قد يمر بك في أقوال الشعراء ما يحث، أو يثني على بعض الأخلاق المعروفة بالمذمة، فلا يغرنك بما يمسح عليه من زخرف الفصاحة؛ كقول بعضهم يأمر بالحمق:
وكنْ أكيسَ الكَيسى إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن أحمقَ الحمقِ

الصفحة 238