كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 5/ 2)

وانقطاع هذا: إنما هو شدة العزيمة وضعفها.
يمثل لك شدة العزيمة: أن عبد الملك بن مروان قصد الخروج إلى بعض الحروب، فلما استعد للرحيل، وقفت له عاتكة بنت يزيد بن معاوية تستعطفه إلى التخلف، وتركِ الخروج لموقع الحرب بنفسه، ظناً منها أن سلطان الهوى أشد أثراً على قلب الرجل من عزيمته، فقال لها: هيهات، أما سمعت بقول الأول:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
ومما يكشف عن ضعف عزيمة الرجل، وتداعيها إلى البلى: أن يعقد إرادته على القيام بعمل يصدق بحكمة وضعه، ثم يتركه وينصرف عنه، حيث يكون بمرأى ممن يخالفه في الاعتقاد بشرفه، ويرى بناءه على غير نتيجة، ونضرب المثل لهذا: رجلاً يدركه وقت العبادة بمشهد من لا يوقنون بفريضتها، أو لا يلتئم وضعها بأذواقهم، فيعقد عن الإحرام بهاة مجاراة لأصحاب هذه الأذواق، ومخافة أن يسقط احترامه من أعينهم؛ كأنه لم يدر أن أقرب الناس منزلة من بهيمة الأنعام: من يخرج أعماله عن سلطان إرادته، ويأخذ فيها بإرادة قوم لا يملكون من أسباب سعادته فتيلاً.
وتتفاضل الإرادات بحسب ما تتوجه إليه من العمل، أو باعتبار ما ترمي إليه من الأغراض، فمن حدثت له إرادة السعي في الإصلاح بين طائفتين، يكون أشرفَ قصدًا ممن همَّ بجهاد الباغية منهما، ومن قصد إلى طلب علم ليستكمل به في نفسه، أو يصلح به قومه، كان أرفع همة ممن يقبل على التعليم لاغتنام معيشة، أو الفوز برئاسة. فملاحظة الباعث مما يجر إلى الإرادة كمالاً زائداً عن الحسن العائد إليها من نفس العمل.

الصفحة 241