كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 5/ 2)

قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
وإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... حازت من العلياء كل مكانِ
والإِسلام يثبت الفضل في المال؛ من جهة أنه معونة على المشروعات العظيمة، ومطية إلى كثير من المقامات العالية، فلو أوتي رجل سعة من الثروة، فركض بها ركض الوحوش في الفلاة، ولم ينفقها إلا في ملبس فاخر، ومطعم لذيذ، أو مطية سابقة، وقصر مشيد، كان أحط رتبة من المسكين الذي يزيد عليه بمثقال ذرة من الخير.
قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيراً، فنفح به يمينه وشماله، وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيراً".
ومما يرجع إلى التكاثر بالمال وسعة الحال: التباهي باللباس، والتفنن فيه أصنافًا وألوانًا، ومثل هذا مطروح من آيات الشرف في نظر الشريعة وعادة العقلاء، ولعلك تذكر ما جاء في "الموطأ" عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً وعليه بُردان قد خلقا "بليا"، فقال: "أما له ثوبان غير هذين؟ "، فقلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العيبة كسوته إياهما، قال: "فادعه، فمره فليلبسهما". ثم ولّى يذهب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أليس هذا خيراً له؟ ".
فهذا الحديث يصرح بفضل الملابس الحسنة، وأن حال الزينة أكمل من التقشف. فنقول: إن الشارع فوض في أمر اللباس إلى حكم العادة، وما يليق بحال الإنسان، فإذا جرت العادة بلبس نوع من الثياب، وكان مستطيعاً له، فعدل عنه إلى صنف أسفل منه، أو أبلى، قبح به هذا الحال، وكره له؛ لأن بذاذة اللباس ورثته مما تقذفها العيون، وتنشز عنها الطباع، فتلقي بصاحبها

الصفحة 245