كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 5/ 2)

وطول تجاربه، صار مظنة لأن يكون أوسع علماً، وأرسخ في الأخلاق الفاضلة:
ما استقامت قناة فكري إلا ... بعد أن قوّس المشيب قناتي
ولهذا ترى الأشيب أقدرَ على مقاومة الهوى، وأصوبَ رمية في وجه السياسة - غالباً -؛ بخلاف الشباب؛ فإنه يكثر فيهم الجهل بالعواقب، ويأخذهم السرف في اتباع الزينة والملاهي بسهولة، وبهذا كان للإقبال على الطاعة في حالة الشبيبة مزية على القيام بها في حال مشيب؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث: "سبعة يظلهم الله في ظله": "وشاب نشأ في طاعة الله"، فإذا عاش الطاعن في السن وهو يجري مع شهواته بغير عِنان، ولم يستفد من تصاريف الزمان ملَكَة قياس الوقائع بأشباهها، فلا يستحق لطول عمره تجلَّة:
إذا لم يكن مر السنين مترجماً ... عن الفضل في الإنسان سميته طفلا
وما تنفع الأيام حين تعدها ... ولم يستفد فيهن علماً ولا فضلا
وينبهون على شأن الرجل بالحديث عن رحلته إلى الأقطار والمدن الآهلة بالعلماء والفضلاء؛ فإن الناهض في الأسفار قلما يفوته أن يلاقي عالماً، أو فاضلاً يقتبس من لقائه مسائل أو أساليب، أو شمائل لا يتوفق لها في وطنه.
ذكر أبو بكر بن العربي مسألة حررها بالمسجد الأقصى عن شيخه أبي الحسن بن مرزوق، وقال في آخر ما كتب: ويوم حصلت هذه المسألة، قلت: الحمد لله الذي أفادني هذه في الرحلة، وعلمت أني لو لم أحصل غيرها، لكفتني، ثم رحلت بعد ذلك إلى العراق، فوجدتها عند علمائهم مبثوثة. وقد خففت كثرةُ التآليف وقيامُ المطابع بنشرها شدة الحاجة إلى الرحلة من الجهة العلمية.

الصفحة 259