كتاب العزلة والانفراد لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل
أحب أن أكون محدثنا ولا قاصا ولا مفتيا, لي في نفسي شغل عن الناس يا هرم بن حيان, قال: قلت: أي أخي! اقرأ علي آيات من كتاب الله عز وجل أسمعهن منك, فإني أحبك في الله حبا شديدا، أو ادعو لي بدعوات، أو أوصني بوصية أحفظها عنك! فأخذ بيدي على شاطىء الفرات، ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. قال: ثم شهق شهقة, قال: ثم بكى مكانه، ثم قال: قال ربي: وأحق القول قول ربي وأصدق الحديث حديثه, وأحسن الكلام كلامه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} حتى بلغ: ^ {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}, قال: ثم شهق شهقة، ثم سكن, فنظرت إليه، وإنما أحسبه قد غشي عليه، ثم قال: يا هرم بن حيان, مات أبوك، ويوشك أن تموت، ومات أبو حيان, فإما إلى الجنة، وإما إلى النار، ومات آدم، وماتت حواء يا ابن حيان، ومات نوح وإبراهيم خليل الرحمن, يا ابن حيان، ومات موسى نجي الرحمن, يا ابن حيان، ومات داود خليفة الرحمن، ومات محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات أبو بكر خليفة المسلمين, يا ابن حيان، ومات أخي, وصديقي, وصفيي عمر بن الخطاب, ثم قال: واعمراه, رحم الله عمر، وعمر يومئذ حي, وذلك في آخر خلافته, فقلت: رحمك الله! إن عمر حي لم يمت, قال: بلى، إن ربي قد نعاه إلي، إن كنت تفهم, فقد علمت ما قلت، وأنا وأنت في الموتى غدا, ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم, ودعا بدعوات خفاف، ثم قال: هذه وصيتي إياك, يا هرم بن حيان: كتاب الله عز وجل، وبقايا الصالحين من المؤمنين، نعيت لك نفسي ونفسك, فعليك بذكر الموت, فلا يفارقن قلبك طرفة عين ما بقيت، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم، وانصح لأهل ملتك جميعا، واكدح لنفسك، وإياك وإياك أن تفارق الجماعة، فتفارق دينك وأنت لا تعلم، فتدخل النار يوم القيامة, يا هرم بن حيان, ثم قال: اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك، وزارني فيك، من أجلك عرفني وجهه في الجنة، وأدخله علي زائرا في دارك دار السلام، واحفظه ما دام في الدنيا حيث ما كان، وضم عليه ضيعته، ورضه من الدنيا باليسير، وما أعطيته من الدنيا فيسره له، واجعله لما تعطيه من نعمك من الشاكرين، وأجزه عني خير الجزاء، استودعك الله يا هرم بن حيان، والسلام عليك ورحمة الله, ثم قال: لا أراك بعد اليوم رحمك الله, فإني أكره الشهرة، والوحدة أحب إلي, لأني كثير الغم، شديد الهم, ما دمت مع هؤلاء الناس حيا في الدنيا، ولا تسأل عني ولا تطلبني، واعلم أنك مني على بال وإن لم أرك ولم ترني, فاذكرني وادع لي, فإني سأذكرك، وأدع لك إن شاء الله، انطلق ها هنا حتى آخذ أنا ها هنا, فحرصت على أن أمشي معه ساعة، فأبى علي، ففارقته يبكي وأبكي, فجعلت أنظر في قفاه حتى دخل بعض السكك، فكم طلبته بعد ذلك وسألت عنه, فما وجدت أحدا يخبرني عنه بشيء, فرحمه الله وغفر له، وما أتت علي جمعة إلا وأنا أراه في منامي مرة أو مرتين، أو كما قال.
الصفحة 55
624