كتاب قرى الضيف لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

قَالَ: فَذَهَبَ بِهَا, فَإِذَا جَارِيَةٌ فِي الْخِبَاءِ، فَقَالَ: يَا هَذِهِ, خُذِي هَدِيَّةَ ابْنِ جَعْفَرٍ، قَالَتْ: إِنَّا قَوْمٌ لاَ نَقْبَلُ عَلَى قِرًى أَجْرًا، قَالَ: فَجَاءَ إِلَى ابْنِ جَعْفَرٍ, فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: عُدْ إِلَيْهَا، فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ، وَإِلاَّ فَارْمِ بِهَا عَلَى بَابِ الْخَيْمَةِ، فَعَاوَدَهَا، فَقَالَتِ: اذْهَبْ عَنَّا بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، فَإِنَّا قَوْمٌ لاَ نَقْبَلُ عَلَى قِرَانَا أَجْرًا، فَوَاللَّهِ لَئِنْ جَاءَ شَيْخِي فَرَآكَ هَاهُنَا، لَتَلْقَيَنَّ مِنْهُ أَذًى، قَالَ: فَرَمَى بِالرِّزْمَةِ وَالصُّرَّةِ عَلَى بَابِ الْخِبَاءِ، ثُمَّ ارْتَحَلْنَا فَمَا سِرْنَا إِلاَّ قَلِيلاً إِذَا نَحْنُ بِشَيْءٍ يَرْفَعُهُ السَّرَابُ مَرَّةً وَيَضَعُهُ أُخْرَى, فَلَمَّا دَنَا مِنَّا إِذَا نَحْنُ بِالشَّيْخِ الْعُذْرِيِّ, وَمَعَهُ الصُّرَّةُ وَالرِّزْمَةُ، فَرَمَى بِذَلِكَ إِلَيْنَا, ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا، فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ فِي قَفَاهُ هَلْ يَلْتَفِتُ؟ فَهَيْهَاتَ، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ جَعْفَرٍ يَقُولُ: مَا غَلَبَنَا بِالسَّخَاءِ إِلاَّ الشَّيْخُ الْعُذْرِيُّ.
16 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ الْحَكَمِ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا الْفَيَّاضُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: خَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَاجًّا, حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ, تَقَدَّمَ ثِقْلَهُ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ, فَانْتَهَى إِلَى أَعْرَابِيَّةٍ جَالِسَةٍ عَلَى بَابِ الْخَيْمَةِ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ يَنْتَظِرُ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَدْ نَزَلَ قَامَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: إِلَيَّ بَوَّأَكَ اللَّهُ مَسَاكِنَ الأَبْرَارِ، قَالَ: فَأُعْجِبَ بِمَنْطِقِهَا، فَتَحَوَّلَ إِلَى بَابِ الْخَيْمَةِ، فَأَلْقَتْ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا, ثُمَّ قَامَتْ إِلَى عُنَيْزَةٍ لَهَا فِي كُسَرِ الْخَيْمَةِ، فَمَا شَعَرَ, حَتَّى قَدَّمَتْ مِنْهَا عُضْوًا فَجَعَلَ يَنْهَسُ، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ نَزَلُوا، فَأَتَتْهُمْ بِالَّذِي بَقِيَ عِنْدَهَا مِنَ الْعَنْزِ، فَطَعِمُوا، وَأَخْرَجُوا سُفَرَهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ: مَا بِنَا إِلَى طَعَامِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ سَائِرَ الْيَوْمِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْتَحِلَ دَعَا مَوْلاَهُ الَّذِي كَانَ يَلِي نَفَقَتَهُ، فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ نَفَقَتِنَا شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَكَمْ هِيَ؟ قَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ، قَالَ: أَعْطِهَا خَمْسَمِئَةِ دِينَارٍ، وَاحْتَبِسْ لِنَفْسِكَ مَا يَبْقَى, قَالَ: فَدَفَعَهُ إِلَيْهَا، فَأَبَتْ أَنْ تَقْبَلَ، فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ يُكَلِّمُهَا وَهِيَ تَقُولُ: إِنِّي وَاللَّهِ أَكْرَهُ عَذْلَ بَعْلِي، فَطَلَبَ إِلَيْهَا عَبْدُ اللهِ حَتَّى قَبِلَتْ، فَوَدَّعَهَا وَارْتَحَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنِ اسْتَقْبَلَهُ أَعْرَابِيُّ يَسُوقُ إِبِلاً لَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: مَا أُرَاهُ إِلاَّ الْمَحْذُورَ، فَلَوِ انْطَلَقَ بَعْضُكُمْ, فَعَلِمَ لَنَا عِلْمَهُ, ثُمَّ لَحِقَنَا، فَانْطَلَقَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ رَاجِعًا مُتَنَكِّرًا, حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَلَمَّا أَبْصَرْتِ الْمَرْأَةُ الأَعْرَابِيَّ مُقْبِلاً قَامَتْ إِلَيْهِ تَغْدَاهُ، وَتَقُولُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي:
تَوَسَّمْتُهُ لَمَّا رَأَيْتُ مَهَابَةً عَلَيْهِ ... فَقُلْتُ الْمَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ.

الصفحة 600