كتاب العزلة والانفراد لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

205 - حَدَّثَنا محمد بن حماد, قال: سمعت أبا النعمان, قال: حَدَّثَنا جرير بن حازم, قال: سمعت الحسن قال: كان رجل من أهل المصر يغشى السلطان، ويصيب منهم، فترك ذلك، وجلس في بيته، فأتاه أهله وبنوه، فقالوا: تركت السلطان وحظك منه؟! فجعل لا يلتفت إليهم, فقالوا: والله لو فعلت لتموتن هرسا, فقال: يا بني والله لأن أموت مؤمنا مهزولاً أحب إلي من أن أموت منافقا سمينا, قال الحسن رحمه الله: علم والله أن القبر يأكل الشحم واللحم, ولا يأكل الإيمان.
206 - كتب إلي أبو عبد الله الباهلي, قال: حدثني أحمد بن محمد، حَدَّثَنا يحيى بن سعيد, قال: قال نصر بن يحيى بن أبي كثير, وكان من الحكماء: لم نجد شيئا أبلغ في الزهد في الدنيا من ثبات حزن الآخرة في قلب العبد، ومن ثبت ذلك في قلبه, آنسه بالوحدة، فأنس بها، واستوحش من المخلوقين، وذلك حين يرى عذوبة حب الخلوة في أعضائه كما يجري الماء في أصول الشجر, فأورقت أغصانها، وأثمرت عيدانها، ولزمه حزن ما يحزنه يوم القيامة، وخالط سويداء قلبه, فهاج من الخلوة فنون من أصول الزهد في الدنيا، وإذا صار العبد إلى درجة الخلوة، وصبر على ذلك، ودام عليه, نقله ذلك إلى حب الخلوة: فأول ما يهيج من حب الخلوة: طلب العبد الإخلاص والصدق في جميع قوله فيما بينه وبين ربه، وورثته الخلوة, راحة القلب من غموم الدنيا، وترك معاملة المخلوقين في الأخذ والإعطاء، وسقط عنه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومداهنة الناس, ويهيج من حب الخلوة: خمول النفس، والأغماض في الناس، وهو أول طريق الصدق، ومنه الإخلاص, ويهيج من حب الخلوة: الزهد في معرفة الناس، والأنس بالله، والاستثقال بمجالسة غير أهل الذكر, ويورث حب الخلوة: طول الصمت في غير تكلف، وغلبة الهوى وهو الصبر، ومنها يظهر الحلم والأناة, ويهيج من حب الخلوة: شغل العبد بنفسه، وقلة اشتغاله بذكر غيره، وطلب السلامة مما فيه الناس, ويهيج من حب الخلوة: كثرة الهموم والأحزان، ومنه ما يهيج الفكر وهو أفضل العبادة، ومخرجه من خالص الذكر, ويهيج من حب الخلوة: الأعمال التي تغيب عن أعين العباد وتظهر لله،

الصفحة 78