كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 5)

" صفحة رقم 13 "
تظهر القوة العملية ، كما بالتوبة تظهر القوة العلمية عن الجهل . فخلوا سبيلهم ، كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاؤوا ، ولا تتعرضوا لهم كقول الشاعر : خل السبيل لمن يبنى المنار به أو يكون المعنى : فأطلقوهم من الأسر والحصر . والظاهر الأول ، لشمول الحكم لمن كان مأسوراً وغيره .
وقال ابن زيد : افترضت الصلاة والزكاة جميعاً ، وأبى الله أنْ لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه في قوله : ( لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة ) وناسب ذكر وصف الغفران والرحمة منه تعالى لمن تاب عن الكفر والتزم شرائع الإسلام . قال الحافظ أبو بكر بن العربي : لا خلاف بين المسلمين أنّ من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلاً كفر ، ودفن في مقابر الكفار ، وكان ماله فيئاً . ومنْ ترك السنن فسق ، ومن ترك النوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها فيكفر ، لأنه يصير راداً على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما جاء به وأخبر عنه انتهى . والظاهر أنّ مفهوم الشرط لا ينتهض أنْ يكون دليلاً على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمداً غير مستحلّ ومع القدرة لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره ، فلا يتعين القتل . وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال مكحول ، ومالك ، والشافعي ، وحماد بن زيد ، ووكيع ، وأبو ثور : يقتل . وقال ابن شهاب ، وأبو حنيفة ، وداود : يسجن ويضرب ، ولا يقتل . وقال جماعة من الصحابة والتابعين : يقتل كفراً ، وماله مال مرتد ، وبه قال إسحاق . قال إسحاق : وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى زماننا .
( وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ( قال الضحاك والسدّي : هي منسوخة بآية الأمر بقتل المشركين . وقال الحسن ومجاهد : هي محكمة إلى يوم القيامة . وعن ابن جبير : جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال : إنْ أراد الرجل منا أنْ يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل ليسمع كلام الله ، أو يأتيه لحاجة قتل ؟ قال : لا ، لأن الله تعالى قال : وإن أحد من المشركين استجارك الآية انتهى . وقيل : هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلاً ، والظاهر أنها محكمة . ولما أمر تعالى بقتل المشركين حيث وجدوا ، وأخذهم وحصرهم وطلب غرتهم ، ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون ويؤسرون ، وتلك إذا جاء واحد منهم مسترشداً طالباً للحجة والدلالة على ما يدعوا إليه من الدين . فالمعنى : وإنْ أحد من المشركين استجارك ، أي طلب منك أن تكون مجيراً له وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام الله وما تضمنه من التوحيد ، ويقف على ما بعثت به ، فكن مجيراً له حتى يسمع كلام الله ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، ثم أبلغه داره التي يأمن فيها إنْ لم يسلم ، ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة . وحتى يصح أن تكون للغاية أي : إلى أن يسمع . ويصح أن تكون للتعليل ، وهي متعلقة في الحالين بأجره . ولا يصح أن يكون من باب التنازع ، وإن كان يصح من حيث المعنى أن يكون متعلقاً باستجارك أو بفأجره ، وذلك لمانع لفظي وهو : أنه لو أعمل الأول لأضمر في الثاني ، وحتى لا تجر المضمر ، فلذلك لا يصح أن يكون من باب التنازع . لكن من ذهب من النحويين إلى أنّ حتى تجر المضمر يجوز أن يكون ذلك عنده من باب التنازع ، وكون حتى لا تجر المضمر هو مذهب الجمهور . ولما كان القرآن أعظم المعجزات ، علق السماع به ، وذكر السماع لأنه الطريق إلى الفهم . وقد يراد بالسماع الفهم تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك : أنت لم تسمع ، تريد لم تفهم . وكلام الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ومأمنه مكان أمنه . وقيل : مأمنه مصدر ، أي ثم أبلغه أمنه . وقد استدلت المعتزلة بقوله : ( حتى يسمع كلام الله ) على حدوث كلام الله ، لأنه لا يسمع إلا الحروف والأصوات . ومعلوم بالضرورة حدوث ذلك ، وهذا مذكور في علم الكلام .
وفي هذه الآية دلالة على أنّ النظر في التوحيد أعلى المقامات ، إذ عصم دم الكافر المهدر الدم بطلبه النظر والاستدلال ، وأوجب على الرسول أن يبلغه مأمنه . ومنها دلالة على أنّ التقليد غير كاف في الدين ، إذ كان لا يمهل بل

الصفحة 13