كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 5)

" صفحة رقم 19 "
العهد ونالتهم الحرب ، وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير . ألا ترى إلى قول الخزاعي المستنصر بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ثمت أسلمنا قلم ننزع يداً وفي آخر الرجز :
وقتلونا ركعا وسجداً وإذهاب الغيظ بما نال الكفار من المكروه ، وهذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها ، لأنّ شفاء الصدر من آلة الغيظ هو إذهاب الغيظ . وقرأ فرقة : ويذهب فعلاً لازماً غيظ فاعل به . وقرأ زيد بن علي : كذلك إلا أنه رفع الباء . وهذه المواعيد كلها وجدت ، فكان ذلك دليلاً على صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وصحة نبوته وبدىء أولاً فيها بما تسبب عن النصر وهو تعذيب الله الكفار وبأيدي المؤمنين وإخزاؤهم ، إذا كانت البداءة بما ينال الكفار من الشر هي التي يسر بها المؤمنون ، ثم ذكر ما السبب وهو نصر الله المؤمنين على الكافرين ، ثم ذكر ما تسبب أيضاً عن النصر من شفاء صدور المؤمنين وإذهاب غيظهم تتميماً للنعم ، فذكر ما تسبب عن النصر بالنسبة للكفار ، وذكر ما تسبب للمسلمين من الفرح والسرور بإدراك الثأر ، ولم يذكر ما نالوه من المغانم والمطاعم ، إذ العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة ، فرغبتهم في إدراك الثأر وقتل الأعداء هي اللائقة بطباعهم .
إن الأسود أسود الغاب همتها
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وقرأ الجمهور : ويتوبُ الله رفعاً ، وهو استئناف إخبار بأنّ بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره ، وكان ذلك عالم كثيرون وحسن إسلامهم . قال الفراء والزجاج وأبو الفتح : وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا ، فلا وجه لإدخال اليوم في جواب الشرط الذي في قاتلوهم انتهى . وقرأ زيد بن علي ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى الثقفي ، وعمرو بن عبيد ، وعمر بن قائد ، وأبو عمرو ، ويعقوب فيما روي عنهما : ويتوبَ الله بنصب الباء ، جعله داخلاً في جواب الأمر من طريق المعنى . قيل : ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء . قال ابن عطية : ويتوجه ذلك عندي إذا ذهب إلى أنّ التوبة يراد بها أنّ قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم ، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال . وقال غيره : لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على بعضهم ، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة . وقيل : حصول الكفر وكثرة الأموال لذة تطلب بطريق حرام ، فلما حصلت لهم طريق حلال كان ذلك داعياً لهم إلى التوبة مما تقدم ، فصارت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة انتهى . وهذا الذي قرروه من كون التوبة تدخل تحت جواب الأمر هو بالنسبة للمؤمنين الذين أمروا بقتال الكفار ، والذي يظهر أنّ ذلك بالنسبة إلى الكفار ، فالمعنى على من يشاء من الكفار ، وذلك أنّ قتال الكفار وغلبة المسلمين إياهم قد ينشأ عنها إسلام كثير من الناس ، وإن لم يكن لهم رغبة في الإسلام ، ولا داعية قبل القتال . ألا ترى إلى قتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أهل مكة كيف كان سبباً لإسلامهم ، لأن الداخل في الإسلام قد يدخل فيه على بصيرة ، وقد يدخل على كره واضطرار ، ثم قد تحسن حاله في الإسلام . ألا ترى إلى عبد الله بن أبي سرح كيف كان حاله أولاً في الإسلام ، ثم صار أمره إلى احسن حال ومات أحسن ميتة في السجود في صلاته ، وكان

الصفحة 19