كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 5)

" صفحة رقم 520 "
الآخرة هم الخاسون ، ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) ( : لما ذكر تعالى نسبتهم إلى الافتراء إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأنّ ما أتى به من عند الله إنما يعلمه إياه بشر ، كان ذلك تسجيلاً عليهم بانتفاء الإيمان ، فأخبر تعالى عنهم أنهم لا يهديهم الله أبداً إذ كانوا جاحدين آيات الله ، وهو ما أتى به الرسول من المعجزات وخصوصاً القرآن ، فمن بالغ في جحد آيات الله سد الله عليه باب الهداية . وذكر تعالى وعيده بالعذاب الأليم لهم ، ومعنى لا يهديهم : لا يخلق الإيمان في قلوبهم . وهذا عام مخصوص ، فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى . وقال الزمخشري : لا يهديهم الله لا يلطف بهم ، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة ، لا من أهل اللطف والثواب انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . وقال ابن عطية : المفهوم من الوجود أنّ الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته ، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخبرتهمما بتقبيح فعلهم والتشنيع بخطئهم ، وذلك كقوله : ) فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ( والمراد ما ذكرناه ، فكأنه قال : إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله انتهى . وقال القاضي : أقوى ما قيل في ذلك لا يهديهم إلى طريق الجنة ، ولذلك قال بعده : ولهم عذاب أليم ، والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار . وقال العسكري : يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا ، والمراد بقوله : لا يهديهم الله أي لا يهتدون ، وإنما يقال : هدى الله فلاناً على الإطلاق إذا اهتدى هو ، وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال : إن الله هداه فلم يهتد ، كما قال : ) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ( ثم ردّ تعالى قولهم : ) إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ( بقوله : إنما يفتري الكذب ، أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن ، لأنه يترقب عقاباً عليه . ولما كان في كلامهم إنما وهو يقتضي الحصر عند بعضهم ، جاء الرد عليهم بإنما أيبضاً ، وجاء بلفظ يفتري الذي يقتضي التجدد ، ثم علق الحكم على الوصف المقتضي للافتراء وهو : انتفاء الإيمان ، وختم بقوله : وأولئك هم الكاذبون . فاقتضى التوكيد البالغ والحصر بلفظ الإشارة ، والتأكيد بلفظ هم ، وإدخال أل على الكاذبون ، وبكونه اسم فاعل يقتضي الثبوت والدوام ، فجاء يفتري يقتضي التجدد ، وجاء الكاذبون يقتضي الثبوت والدوام . وقال الزمخشري : وأولئك إشارة إلى قريش هم الكاذبون ، هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون . أو إلى الذين لا يؤمنون أي : وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب ، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب . أو أولئك هم الكاذبون عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء ، لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين . أو أولئك هم الكاذبون في قولهم : إنما أنت مفتر انتهى . والوجه الذي بدأ به بعيد ، وهو أن وأولئك إشارة إلى قريش . والظاهر أن من شرطية في موضع رفع على الابتداء ، وهو استئناف إخبار لا تعلق له بما قبله من جهة الإعراب . ولما كان الكفر يكون باللفظ وبالاعتقاد ، استثنى من الكافرين من كفر باللفظ وقلبه مطمئن بالإيمان ، ورخص له في النطق بكلمة الكفر إذ كان قلبه مؤمناً ، وذلك مع الإكراه . والمعنى : إلا من أكره على الكفر ، تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان . وجواب الشرط محذوف لدلالة ما بعده عليه تقديره : الكافرون بعد الإيمان غير المكرهين ، فعليهم غضب . ويصح أن يكون الاستثناء من ما تضمنه جواب الشرط المحذوف أي : فعليهم غضب ، إلا من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب ، ولكنْ من شرح وكذا قدره الزمخشري أعني الجواب قبل الاستثناء في قول مَن جعل مَن شرطاً . وقال ابن عطية : وقالت فرقة مَن في قوله مَن كفر ابتداء ، وقوله : من شرح تخصيص منه ، ودخل الاستثناء لإخراج عمار وشبهه . ودنا من الاستثناء الأول الاستدراك بلكن وقوله : فعليهم ، خبر عن مَن الأولى والثانية ، إذ هو واحد بالمعنى لأن الإخبار في قوله : من كفر ، إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر انتهى . وهذا وإن كان كما ذكر فهاتان جملتان شرطيتان ، وقد فصل

الصفحة 520