كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 5)

" صفحة رقم 521 "
بينهما بأداة الاستدراك ، فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على انفراده لا يشتركان فيه ، فتقدير الحذف أحرى على صناعة الإعراب . وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله : ) فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( وقوله : ) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ ( جواب لأما ، ولأنّ هذا وهما أدانا شرط ، إحداهما تلي الأخرى ، وعلى كون مَن في موضع رفع على الابتداء ، يجوز أن تكون شرطية كما ذكرنا ، ويجوز أن تكون موصولة وما بعدها صلتها ، والخبر محذوف لدلالة ما بعده عليه ، كما ذكرنا في حذف جواب الشرط . إلا أنْ من الثانية لا يجوز أنْ تكون شرطاً حتى يقدر قبلها مبتدأ لأنّ من وليت لكنْ فيتعين إذ ذاك أن تكون مَن موصولة ، فإن قدر مبتدأ بعد لكن جاز أن تكون شرطية في موضع خبر ذلك المبتدأ المقدر كقوله :
ولكن متى يسترقد القوم أرقد
أي : ولكن أنا متى يسترقد القوم أرقد . وكذلك تقدر هنا ، ولكن هم من شرح بالكفر صدراً أي : منهم . وأجاز الحوفي والزمخشري : أن تكون بدلاً من الذين لا يؤمنون ، ومن الكاذبون . ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلاً من الكاذبون ، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام ، فعلقه بما قبله . وأجاز الزمخشري أن يكون بدلاً من أولئك ، فإذا كان بدلاً من الذين لا يؤمنون فيكون قوله : وأولئك هم الكاذبون ، جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه ، والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء . وإذا كان بدلاً من الكاذبون فالتقدير : وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، وإذا كان بدلاً من أولئك فالتقدير : ومَن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون .
وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة . لأنّ الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه ، والوجود يقتضي أنّ من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن ، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط ، بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب . وأما الثاني فيؤول المعنى إلى ذلك ، إذ التقدير : وأولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، والذين لا يؤمنون هم المفترون . وأما الثالث فكذلك . إذ التقدير : أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون . وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب على الذم انتهى . وهذا أيضاً بعيد ، والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب ، بل من حيث المعنى . والمناسبة وفي قوله : إلا من أكره دليل على أنّ من فعل المكره لا يترتب عليه شيء ، وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر أو فعل ما يؤدي إليه ، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى . وقد تكلموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك ، وفي تفصيل الأشياء التي يقع الإكراه فيها ، وذلك كله مذكور في كتب الفقه . والمكرهون على الكفر المعذبون على الإسلام : خباب ، وصهيب ، وبلال ، وعمار ، وأبواه ياسر وسمية ، وسالم ، وحبر ، عذبوا فأجابهم عمار وحبر باللفظ فخلى سبيلهما ، وتمادى الباقون على الإسلام فقتل ياسر وسمية ، وهما أول قتيل في الإسلام ، وعذب بلال وهو يقول : ( أحد أحد ) وعذب خباب بالنار فما أطفأها إلا ودك ظهره . وجمع الضمير في فعليهم على معنى من ، وأفرد في شرح على لفظها . والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب أي : كائن لهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة . وقال الزمخشري : واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم انتهى . وهي نزغة اعتزالية . والضمير في بأنهم عائد على من في من شرح : ولما فعلوا فعل من استحب ، ألزموا ذلك وإن كانوا غيره مصدقين بآخره ، لكن من حيث أعرضوا

الصفحة 521