كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 5)

" صفحة رقم 524 "
كسبت وعصيت لا أنا ، وأنت كنت الحامل وأنا المحمول ، فيقول الله عز وجل : أضرب لكما مثل أعمى حمل مقعداً إلى بستان فأصابا من ثماره ، فالعذاب عليكما . وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد ، وقتادة : أن القرية المضروب بها المثل مكة ، كانت لا تغزي ولا يغار عليها ، والأرزاق تجلب إليها ، وأنعم الله عليها بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فكفرت ، فأصابها السنون والخوف . وسرايا الرسول وغزواته ضربت مثلاً لغيرها مما يأتي بعدها . وهذا وإن كانت الآية مدنية ، وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب بسبب التكذيب . ويؤيد كونها مكية قوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه ، ويجوز أن يكون قرية من قرى الأولين . وعن حفصة : أنها المدينة . وقال ابن عطية : يتوجه عندي أنها قصد بها قرية غير معينة ، جعلت مثلاً لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة . وقال الزمخشري : يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن يكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها انتهى . ولا يجوز أنْ يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، بل لا بد من وجودها لقوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون . كانت آمنة ابتدأ بصفة الأمن ، لأنه لا يقيم لخائف . والاطمئنان زيادة في الأمن ، فلا يزعجها خوف . يأتيها رزقها أقواتها واسعة من جميع جهاتها ، لا يتعذر منها جهة . وأنعم جمع نعمة ، كشدّة وأشد . وقال قطرب : جمع نعم بمعنى النعيم ، يقال : هذه أيام طعم ونعم انتهى . فيكون كبؤس وأبؤس . وقال الزمخشري : جمع نعمة على ترك التاء ، جمع نعمة على ترك التاء ، والاعتداد بالتاء كدرع وأدرع . وقال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن ، والصحة ، والكفاية . قال أبو عبد الله الرازي : أمنة إشارة إلى الأمن ، مطمئنة إشارة إلى الصحة ، لأن هواء ذلك لما كان ملازماً لا مزجتهم اطمأنوا إليها واستقروا ، يأتيها رزقها السبب في ذلك دعوة إبراهيم عليه السلام : ) فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ ( وقال : الأنعم جمع نعمة وجمع قلة ، ولم يأت بنعم الله ، وذلك أنه قصد التنبيه بالأدنى على الأعلى بمعنى أنّ كفران النعم القليلة أوجب العذاب ، فكفران الكثيرة أولى بإيجابه . قال ابن عطية : لما باشرهم ذلك صار كاللباس ، وهذا كقول الأعشى : إذا ما الضجيجع ثنى جيدها
تثنت فكانت عليه لباسا
ونحو قوله تعالى : ) هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ( ومنه قول الشاعر : وقد لبست بعد الزبير مجاشع
ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما كأن العار لما باشرهم ولصق بهم جعلهم لبسوه . وقوله : فأذاقها الله ، نظير قوله : ) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( ونظير قول الشاعر :
دونك ما جنيته فاحس وذق
وقال الزمخشري : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحتهما ؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس فما وجه صحة إيقاعها ؟ ( قلت ) : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها

الصفحة 524