كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 5)

" صفحة رقم 525 "
فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وإذاقة العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع . وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث . وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة : عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في نحو هذا طريقان : أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظر إليه ههنا ، ونحوه قول كثير : غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا
غلقت لضحكته رقاب المال
استعار الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرض صاحبه ، صون الرداء لما يلقى عليه . ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال ، لا صفة الرداء ، نظراً إلى المستعار له . والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار كقوله : ينازعني ردائي عبد عمرو
رويدك يا أخا عمرو بن بكر
لي الشطر الذي ملكت يميني
ودونك فاعتجر منه بشطر
أراد بردائه سيفه ثم قال : فاعتجر منه بشطر ، فنظر إلى المستعار في لفظ : الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل : فكساهم لبس الجوع والخوف ، ولقال كثير : ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً انتهى . وهو كلام حسن . ولما تقدم ذكر الأمن وإتيان الرزق ، قابلهما بالجوع الناشىء عن انقطاع الرزق وبالخوف . وقدم الجوع ليلى المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله : ) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ( وأما قوله : ) فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ ( فأما الذين شقوا ففي النار فقدم ما بدىء به وهما طريقان . وقرأ الجمهور : والخوف بالجرّ عطفاً على الجوع . وروي العباس عن أبي عمرو : والخوف بالنصب عطفاً على لباس . قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاب وإقامة المضاف إليه مقامه ، أصله ولباس الخوف . وقرأ عبد الله فأذاقها الله الخوف والجوع ، ولا يذكر لباس . والذي أقوله : إنّ هذا تفسير المعنى لا قراءة ، لأن المنقول عنه مستفيضاً مثل ما في سواد المصحف . وفي مصحف أبي بن كعب لباس الخوف والجوع ، بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله : كانت آمنة ، وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقاً وغرباً ، ولذلك المستفيض عن أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة بما كانوا يصنعون من كفران نعم الله ، ومنها تكذيب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) الذي جاءهم . والضمير في بما كانوا يصنعون عائد على المحذوف في قوله : وضرب الله مثلاً قرية ، أي : قصة أهل قرية ، أعاد الضمير أولاً على لفظ قرية ، ثم على المضاف المحذوف كقوله : ) فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ). والظاهر أن الضمير في ولقد جاءهم ، عائد على ما عاد عليه في قوله : بما كانوا يصنعون . وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون الضمير في

الصفحة 525